مرثيـة أبي الحسن التُّهامي في ابنه
هو علي بن محمد بن فهد ، أبو الحسن التهامي الشاعر , وهو من الشعراء المحسنين المجيدين ، 
وهذه القصيدة قالها في رثاء ابنه وقد عُدَّتْ من عيون قصائد الرثاء والحكمة :
 
حُكْـم المنيَّـة فـي البريَّـة جـارِ * * * مـا هـذه الـدنيـا بـدار قـرارِ
بيـنا يُـرى الإنسانُ فيهـا مخْبِـراً * * * حتى يُـرى خبَـراً مـن الأخبـارِ
طُبِعتْ على كـدَرٍ وأنـت تريدُهـا * * * صفْـواً مـن الأقْـذاء والأكْـدار
ومكلِّـفُ الأيَّـام ضِـدَّ طِباعهـا * * * متطلِّـبٌ فـي المـاء جـذوةَ نـار
 
وإذا رجـوتَ المستحيـلَ فـإنمـا * * * تبنـي الـرَّجاءَ على شفيـرٍ هـارِ
فـالعيـشُ نـومٌ والمنيـةُ يقظـةٌ * * * والمــرءُ بينهمـا خيـالٌ سـارِ
والنفـسُ إنْ رضيتْ بذلك أو أبتْ * * * منقــادةٌ بـأزمَّــة المقْــدار
فاقْضـوا مآربَكـم عُجـالاً إنمـا * * * أعمـارُكـم سفَـرٌ مـن الأسفـارِ
 
وتراكضـوا خيلَ الشباب وبادِروا * * * أنْ تُستـرَدَّ فـإنَّـهـن عَــوار
فالدهـرُ يـخدعُ بالمنى ويغـصُّ إنْ * * * هٌنّـا ويهـدِمُ مـا بنـى ببـوارِ
ليس الـزمانُ وإنْ حـرصتَ مسالماً * * * خُلُـقُ الـزمـانِ عـداوةُ الأحـرارِ
إني ُوتِـرْتُ بصـارم ذي رونَـقٍ * * * أعـددتُـه لطـلابـة الأوتــار
 
زَرَداً فأحكمَ كـلَّ مـوصِـل حلقةٍ * * * بحبـابـةٍ فـي مـوضـع المسمـار
ودَحَوا فُـويقَ الأرض أرضاً مـن دَمٍ * * * ثـم انثنـوا فبنَـوا سمـاءَ غُبـار 
قـومٌ إذا لبسـوا الـدُّروع حسبتَها * * * سُحُـباً مــزرَّرة علـى أقمــار
وتـرى سيـوف الـدارعـين كأنهـا * * * خلُـجٌ تَمُـدُّ بهـا أكُـفَّ بحـار
 
لـو أشـرعـوا أيمانَهم فـي طـولها * * * طعنـوا بها عِـرْضَ القنـا الخطّـار
جنَبـوا الجيادَ إلـى المطيِّ وراوحوا * * * بيـن السُّـروج هنـاك والأكْـوار
فكأنَّمـا ملـؤوا عيـاب دروعهـم * * * وغمـود أنْصُلهـم سـراب قفـار 
وكأنمـا صَنَـعُ السـوابـغِ عَـزّه * * * مـاءُ الحـديـد فصـاغ ماء قـرار
 
فتـدرَّعـوا بمتـون مـاءٍ جامـدٍ * * * وتقنعــوا بحبـاب مـاءٍ جـار ِ
أُسْـدٌ ولكـن يـؤثِرون بـزادهـم * * * والأسْـد ليـس تَـديـن بالإيثـار 
يتـزيَّن النادي بحسـن وجـوههـم * * * كتـزيُّـن الهـالات بـالأقمـار 
يتعطَّفـون علـى المجـاور فيهـم * * * بـالمنْفِسـاتِ تعطُّـفَ الآظـار 
 
مـن كـل مـن جعـل الظُبى أنصاره * * * وكَـرُمْـنَ واستغنـى عـن الأنصار
والليـث إن ثـاورته لـم يعتمـد * * * إلا علـى الأنيـاب والأظفـار
وإذا هـو اعتقـل القنـاة حسبتهـا * * * صِـلاً تـأبطـه هـزبـر ضـار
زَرَدُ الدلاص من الطعـان بـرمحـه * * * مثـل الأسـاور في يـد الإسـوار 
 
ويجـر حين يجـر صعــدة رمحـه * * * فـي الجحفـل المتضـايـق الجـرَّار 
مـا بيـن ُترْب بالـدماء مُلبـَّدٍ * * * زَلِـقٍ ونقـعٍ بـالطِّــراد مثـار 
والهـون فـي ظل الهوينـا كامـنٌ * * * وجـلالة الأخطـار فـي الأخطـارِ 
تنـدى أسـرَّةُ وجهـه ويمينـه * * * فـي حالـة الإعصـار والإيسـارِ 
 
ويمـدُّ نحـو المكرمـات أنامـلاً * * * لـلـرزق في أثنـائـهـن مـجـارِ
يحـوي المعالـي غالبـاً أو خالبـاً * * * أبـداً يُـداني دونهـا ويــداري 
قـد لاح في ليل الشباب كواكـبٌ * * * إنْ أُمهِلـتْ آلـتْ إلـى الأسفـارِ
يا كـوكباً ما كان أقصـرَ عمْـرَه * * * وكذا تكـون كواكـبِ الأسحـارِ
 
أثْنـي عليـه بأثْـره ولـو انـه * * * لـم يغتبِـطْ أثنيـتُ بـالآثـارِ
وهلالُ أيامٍ مضـى لـم يسْتـدِرْ * * * بـدْراً ولم يُمْهَـلْ لـوقْـت سِـرار
عجِلَ الخسـوفُ عليه قبل أوانـه * * * فمحـاه قبـل مظنـة الإبـْـدارِ
واستُـلَّ مـن أتْرابـه ولِـداتـه * * * كـالمقْلـة استُلَّـتْ مـن الأشفـار
 
فكـأنَّ قلبـي قبـرُه وكـأنَّـه * * * فـي طيِّـه سِـرٌّ مـن الأسـرار
إن يُحتقَر صِغَـراً فـرُبَّ مفخَّـم * * * يبـدو ضئيـلَ الشخـص للنظـار
إن الكـواكب فـي علُـوِّ محلهـا * * * لتُـرى صِغاراً وهـي غيـرُ صغـارِ
ولـدُ المعـزَّى بعضه فـإذا انقضى * * * بعضُ الفتـى فالكـل فـي الآثـار
 
أبكيه ثـم أقـولُ معتـذراً لـه * * * وفِّقـتَ حيـن تركـتَ أَلأَمَ دار
جاورتُ أعـدائـي وجـاور ربـَّه * * * شتـانَ بيـن جِـواره وجِـواري 
أشكو بعـادَك لـي وأنت بموضع * * * لـولا الـردى لسمعتَ فيه سِراري
والشرْقُ نحـو الغـرْب أقربُ شقة * * * مـن بعـد تلك الخمسـة الأشبار 
 
هيهات قـد علقتْك أشراكُ الـرَّدى * * * واعتاق عمْـرَك عـائـقُ الأعمار 
ولقـد جـريتَ كما جـريتُ لغايةٍ * * * فبلغتَهـا وأبـوك فـي المضمـار 
فإذا نطقـتُ فأنـت أولُ منطقـي * * * وإذا سكـتُّ فأنت فـي إضمـاري 
أُخفي من البـُرَحاء ناراً مثْـلَ ما * * * يخفـي مـن النار الـزِّناد الـواري 
 
وأُخفّضُ الـزفـرات وهي صواعدٌ * * * وأكفكـف العبـَرات وهي جـوار 
وشهـاب زند الحـزن إنْ طاوعتُـه * * * أورى وإن عـاصيتُـه متـواري 
وأكـفُّ نيـرانَ الأسـى ولربـَّمـا * * * غلـبَ التصبُّـرُ فـارتَـمتْ بشَـرَارِ
ثوبُ الـرياء يشِفُّ عمـا تحتـه * * * وإذا التحفْـتَ بـه فـإنَّـك عـارِ 
 
قصـرتْ جفـوني أم تباعد بينهـا * * * أم صُـوِّرت عينـي بـلا أشفـارِ
جلت الكَـرى حتى كـأنَّ غـرارها * * * عند اغتماض العيـن حـد غـرارِ 
ولو استـزارتْ رقـدةً لرمى بهـا * * * مـا بيـن أجفـانـي إلى التيَّـارِ
أُحيـي الليالـي التمَّ وهي تميتنـي * * * ويـميتُـهــن تبـلَّـجُ الأنـوارِ 
 
حتى رأيتُ الصـبحَ تهتـك كفُّـه * * * بالضـوء رفـرَفَ خيمـةٍ كالقـارِ
والصبحُ قد غمـر النجـومَ كأنَّـه * * * سيـل طغـى فطَمـا على الـنُّـوَّارِ 
وتلهُّـبُ الأحشاء شيَّـبَ مفْرقـي * * * هـذا الضياء شُـواظ تلـك النـارِ 
شاب القـذال وكل غصن صائـر * * * فينـانُـه أحْـوى إلـى الإزهـارِ 
 
والشِّبْه منجـذبٌ فلِمْ بيضُ الدمى * * * عـن بيض مفـرْقـةٍ ذوات نَفـارِ 
وتود لـو جعلتْ سـوادَ قلوبهـا * * * وسـوادَ أعينهـا خضـابَ عـذارِ
لاتنفـر الظبْياتُ عنـه فقـد رأتْ * * * كيف اختـلاف النَّبتِ فـي الأطـوارِ
شيئـان ينقشِعـان أولَ وهْلـةٍ * * * شرْخُ الشباب , وخلَّـةُ الأشـرارِ 
 
لا حبذا الشيـب الوفـي وحبـذا * * * ظـلُّ الشبـاب الخائـن الغـدارِ 
وطَـري من الدنيا الشبابُ وروقُه * * * فإذا انقضـى فقـد انقضتْ أوطاري
قصُـرتْ مسافتُه ومـا حسناتُـه * * * عـنـدي ولا آلاؤه بـقِـصـارِ 
نـزداد هماً كلما ازددنـا غنـىً * * * والفقـرُ كلُّ الفقـر فـي الإكثـارِ
 
مـا زاد فـوق الزاد خُلِّف ضائعـاً * * * فـي حـادثٍ أو وارثٍ أو عـارِ
إنـي لأرحمُ حاسِـديَّ لحـرِّ مـا * * * ضمَّـتْ صـدورُهم مـن الأوغـارِ 
نظـروا صنيعَ اللهِ بـي فعيـونُهـم * * * فـي جنَّـة وقلـوبُهـم فـي نـارِ
 
لا ذنبَ لـي كم رُمتُ كتْمَ فضائـلي * * * فكـأنمـا مـرقــاةُ وجْــهٍ آرِ 
وستـرتُها بتـواضعـي فتطلَّعـتْ * * * أعنـاقُهـا تعلـو علـى الأستـارِ 
ومـن الرجـال معالِـمٌ ومجاهـلٌ * * * ومن النجـوم غـوامـضٌ ودراري 
والناس مشتبهـون فـي إيرادهـم * * * وتبـاين الأقـوام فـي الإصـدارِ 
 
عَمْـري لقـد أوطأتهم طرُقَ العـلا * * * فعمَـوا ولم يقِفـوا علـى آثـاري 
لو أبصـروا بقلـوبهم لاستبصروا * * * وعمى البصائـرِ مِـن عمَـى الأبصارِ
هلا سعَوا سعْيَ الكرام فأدْركـوا * * * أو سلَّمـوا لمـواقــع الأقْــدارِ 
 
ذهبَ التكرُّم والوفـاءُ من الورى * * * وتصـرَّمـا إلا مـن الأشـعــار
وفشـتْ خياناتُ الثقات وغيـرِهم * * * حتـى اتّهمنـا رؤيـةَ الأَبصـار
ولـربما اعتَضَـدَ الحليـمُ بجاهـلٍ * * * لا خيـرَ فـي يُمنـى بغيـر يسـارِ