المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : في معنى قوله تعالى{ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لا مِسَاسَ }


أبو عبيدة طارق الجزائري
05-16-2013, 12:27 AM
بسم الله الرحمن الرحيم

في معنى قوله تعالى{ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لا مِسَاسَ }

الحمد لله و الصلاة و السلام على رسول الله و على آله و صحبه و من تبع هداه أما بعد

قال الله تبارك و تعالى في سياق الحديث على قصة موسى عليه السلام مع السامري:
{ قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا } [طه: 95-97 ].

{قَالَ} استئنافٌ وقع جوابا عما نشأ من حكاية ما سلف من اعتذار القوم بإسناد الفسادِ إلى السامري واعتذار هارون عليه السلام كأنه قيل فماذا صنع موسى عليه السلام بعد سماع ما حُكي من الاعتذارين واستقرارِ أصل الفتنة على السامري فقيل قال موبخاً له هذا شأنهم {مَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ} أي ما شأنُك وما مطلوبُك مما فعلت خاطبه عليه السلام بذلك ليُظهر للناس بُطلانَ كيدِه باعترافه ويفعلَ به وبما صنعه من العقاب ما يكون نكالاً للمفتونين به ولمن خلفهم من الأمم

فقال: { بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ} وهو جبريل عليه السلام على فرس رآه وقت خروجهم من البحر، وغرق فرعون وجنوده على ما قاله المفسرون، فقبضت قبضة من أثر حافر فرسه، فنبذتها على العجل، {وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي}أن أقبضها، ثم أنبذها، فكان ما كان،

قال{ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ} أَيْ: قَالَ السَامِرِيُ مجِيبًا على موسى: رأَيت ما لم يروا، أو عَلمتُ بما لَم يعلموا، وفطنتُ لمَا لمْ يَفطنوا لهُ، وأرَادَ بذَلكَ أنَهُ رأى جبريلَ عَلى فرَس الحيَاةِ، فأُلْقِيَ فِي ذِهْنه أنْ يقبضَ قبْضَةً مِنْ أثَرِ الرَسول، وأَنَ ذَلِكَ الْأَثَرَ لَا يَقَعُ عَلَى جَمَادٍ إِلَّا صَارَ حَيًّا.

ومعنى منْ أثَر الرَسُولِ منَ المحل الَّذي وَقعَ عليْهِ حَافِرُ فَرَسِ جِبْرِيلَ، وَمَعْنَى فَنَبَذْتُها فَطَرَحْتُهَا فِي الْحُلِيِّ الْمُذَابَةِ الْمَسْبُوكَةِ عَلَى صُورَةِ الْعِجْلِ .


و قوله { فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ } أي من تراب أثر فرس جبريل، { فَنَبَذْتُهَا } أي ألقيتها في فم العجل.
وقال بعضهم: إنما خار لهذا لأن التراب كان مأخوذا من تحت حافر فرس جبريل.
فإن قيل: كيف عرفه ورأى جبريل من بين سائر الناس؟ .
قيل: لأن أمه لما ولدته في السنة التي يقتل فيها البنون وضعته في الكهف حذرا عليه، فبعث الله جبريل ليربيه لما قضى على يديه من الفتنة .
روى الطبري: عن ابن جريج قال: لما قتل فرعون الوالدان قالت أم السامري : لو نحيته عني حتى لا أراه، ولا أدري قتله، فجعلته في غار، فأتى جبريل، فجعل كف نفسه في فيه، فجعل يرضعه العسل واللبن، فلم يزل يختلف إليه حتى عرفه، فمن ثم معرفته إياه حين قال:{ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ } .

وَقَرَأَ حمزة والكسائي والأعمش وخلف ما لَمْ تَبْصُرُوا بِهِ بِالْمُثَنَّاةِ مِنْ فَوْقُ عَلَى الْخِطَابِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالتَّحْتِيَّةِ، وَهِيَ أَوْلَى، لِأَنَّهُ يَبْعُدُ كُلَّ الْبُعْدِ أَنْ يُخَاطِبَ مُوسَى بِذَلِكَ، وَيَدَّعِيَ لِنَفْسِهِ أَنَّهُ عَلِمَ مَا لَمْ يَعْلَمْ بِهِ مُوسَى، وَقُرِئَ بِضَمِّ الصَّادِ فِيهِمَا وَبِكَسْرِهَا فِي الْأَوَّلِ وَفَتْحِهَا فِي الثَّانِي، وَقَرَأَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ فَقَبَصْتُ قَبْصَةً بِالصَّادِ الْمُهْمَلَةِ فِيهِمَا، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالضَّادِ الْمُعْجَمَةِ فِيهِمَا، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْقَبْضَ بِالْمُعْجَمَةِ: هُوَ الْأَخْذُ بِجَمِيعِ الْكَفِّ، وَبِالْمُهْمَلَةِ: بِأَطْرَافِ الْأَصَابِعِ، وَالْقُبْضَةُ بِضَمِّ الْقَافِ:

الْقَدْرُ الْمَقْبُوضُ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: هِيَ مَا قَبَضْتُ عَلَيْهِ مِنْ شَيْءٍ، قَالَ: وَرُبَّمَا جَاءَ بِالْفَتْحِ، وَقَدْ قُرِئَ قَبْضَةً بِضَمِّ الْقَافِ وَفَتْحِهَا، وَمَعْنَى الْفَتْحِ الْمَرَّةُ مِنَ الْقَبْضِ، ثُمَّ أُطْلِقَتْ عَلَى الْمَقْبُوضِ وَهُوَ مَعْنَى الْقُبْضَةِ بِضَمِّ الْقَافِ،

إلى أن قال وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي قَالَ الْأَخْفَشُ: أَيْ: زَيَّنَتْ أَيْ: وَمِثْلَ ذَلِكَ التَّسْوِيلِ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي وَقِيلَ: مَعْنَى سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي: حدّثتي نَفْسِي،



فَلَمَّا سَمِعَ مُوسَى مِنْهُ ذَلِكَ قالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِساسَ أَيْ:

فَاذْهَبْ مِنْ بَيْنِنَا، وَاخْرُجْ عَنَّا، فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَيْ: مَا دمت حيا، وطول حَيَاتِكَ، أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ. الْمِسَاسُ: مَأْخُوذٌ مِنَ الْمُمَاسَّةِ أَيْ: لَا يَمَسُّكَ أَحَدٌ وَلَا تَمَسُّ أَحَدًا، لَكِنْ لَا بِحَسَبِ الِاخْتِيَارِ مِنْكَ،

بَلْ بِمُوجِبِ الِاضْطِرَارِ الْمُلْجِئِ إِلَى ذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَمَرَ مُوسَى أَنْ يَنْفِيَ السَّامِرِيَّ عَنْ قَوْمِهِ، وَأَمَرَ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ لَا يُخَالِطُوهُ وَلَا يَقْرَبُوهُ وَلَا يُكَلِّمُوهُ عُقُوبَةً لَهُ. قِيلَ: إِنَّهُ لَمَّا قَالَ لَهُ مُوسَى ذَلِكَ هَرَبَ، فَجَعَلَ يَهِيمُ فِي الْبَرِّيَّةِ مَعَ السِّبَاعِ وَالْوَحْشِ لَا يَجِدُ أَحَدًا مِنَ النَّاسِ يَمَسُّهُ، حَتَّى صَارَ كَمَنْ يَقُولُ لَا مِسَاسَ لِبُعْدِهِ عَنِ النَّاسِ وَبُعْدِ النَّاسِ عَنْهُ،

وَحَاصِلُ مَا قِيلَ فِي مَعْنَى لَا مِسَاسَ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ:

الْأَوَل:أَنَه حرَمَ عليه ممَاسَةَ النَّاس، وكَانَ إِذا ماسَهُ أحَد حمَّ الْماسُّ وَالْمَمْسُوسُ، فلذلك كان يَصيحُ إِذا رأَى أَحدًا:
لَا مِسَاسَ.

والثَاني: أَنَّ الْمراد منع النَّاسِ مِن مُخَالَطَتِهِ وَاعْتُرِضَ بأَنَ الرَجل إذا صار مهجورا فلا يقول هو لا مِساسَ وَإِنَمَا يقال لَه، وأُجيبَ بأَنَّ الْمراد الْحكاية، أَيْ: أجعلك يا سامريُ بحيث إذا أخبرت عن حالك قُلْت لَا مِسَاسَ.

والقول الثالث: أَن الْمُرَادَ انْقِطَاعُ نَسْلِهِ، وَ أَن يُخبرَ بأنَه لا يَتَمَكَّن من مُمَاسَة الْمرأَة، قاله أبو مسلم وهو ضعيف جدا.

و قيل في قوله :{ فَاذْهَبْ} أي: تباعد عني واستأخر مني {فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لا مِسَاسَ} أي: تعاقب في الحياة عقوبة، لا يدنو منك أحد، ولا يمسك أحد، حتى إن من أراد القرب منك، قلت له: لا تمسني، ولا تقرب مني، عقوبة على ذلك، حيث مس ما لم يمسه غيره، وأجرى ما لم يجره أحد .

{وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا} أي: العجل {لنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا} ففعل موسى ذلك، فلو كان إلها، لامتنع ممن يريده بأذى ويسعى له بالإتلاف، وكان قد أشرب العجل في قلوب بني إسرائيل، فأراد موسى عليه السلام إتلافه وهم ينظرون، على وجه لا تمكن إعادته بالإحراق والسحق وذريه في اليم ونسفه، ليزول ما في قلوبهم من حبه، كما زال شخصه، ولأن في إبقائه محنة، لأن في النفوس أقوى داع إلى الباطل، فلما تبين لهم بطلانه، أخبرهم بمن يستحق العبادة وحده لا شريك له، فقال:{ إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا} .

أي: لا معبود إلا وجهه الكريم، فلا يؤله، ولا يحب، ولا يرجى ولا يخاف، ولا يدعى إلا هو، لأنه الكامل الذي له الأسماء الحسنى، والصفات العلى، المحيط علمه بجميع الأشياء، الذي ما من نعمة بالعباد إلا منه، ولا يدفع السوء إلا هو، فلا إله إلا هو، ولا معبود سواه.


تنبيه:
وقوله في هذه الآية الكريمة: {فَنَسِيَ} أي: نسي موسى إلهه هنا وذهب يطلبه في محل آخر. قاله ابن عباس في حديث الفتون. وهو قول مجاهد. وعن ابن عباس أيضاً من طريق عكرمة {فَنَسِيَ} أي: نسي أن يذكركم به. وعن ابن عباس أيضاً {فَنَسِيَ} أي: السامري ما كان عليه من الإسلام، وصار كافراً بادعاء ألوهية العجل وعبادته.

فإن قال قائل هذا حال السامري فما حال بني إسرائيل من بعده هل تاب الله عليهم؟

نقل ابن جرير 786 - حدثني عبد الكريم بن الهيثم , قال : حدثنا إبراهيم بن بشار , قال : حدثنا سفيان بن عينة , قال : قال أبو سعيد , عن عكرمة , عن ابن عباس , قال : قال موسى لقومه : { فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ } قال : أمر موسى قومه عن أمر ربه عز وجل أن يقتلوا أنفسهم , قال : فاحتبى الذين عكفوا على العجل فجلسوا , وقام الذين لم يعكفوا على العجل وأخذوا الخناجر بأيديهم وأصابتهم ظلمة شديدة , فجعل يقتل بعضهم بعضا . فانجلت الظلمة عنهم , وقد أجلوا عن سبعين ألف قتيل , كل من قتل منهم كانت له توبة , وكل من بقي كانت له توبة .

و في مسألة توبة الله عليهم أقوال أخرى منقولة عن السلف رحمهم الله هذا جزء يسير من تفسير هذه الآيات الكريمات و الله تبارك و تعالى أعلم و صلى الله عليه نبينا محمد و على آله و صحبه أجمعين .


جمعه أخوكم أبو عبيدة طارق بن سعد الجزائري