المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الباب الثاني:في أول من سن الجدَال لابن رجب الحنبلي-رحمه الله تعالى-


أبو عبيدة طارق الجزائري
03-19-2013, 12:57 AM
بسم الله الرحمن الرحيم

قال ابن رجب الحنبلي-رحمه الله تعالى- في "استخراج الجدال من القرآن الكريم"

الباب الثاني: في أول من سن الجدَال

أول من سن الجدال الملائكة صلوات الله عليهم حيث قالوا:﴿ أَتْجَعلُ فيها مَنْ يُفْسِدُ فيها وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ ونحنُ نُسَبِّحُ بحمدِكَ ونُقَدِّسُ لكَ قالَ إني أعْلَمُ ما لا تعلمونَ ﴾. وهذا منهم استدلال بالترجيح والأولوية، أي: من سبح وقدس لك هو أولى بالإيجاد والجعل فيها ممن يفسد فيها ويسفك الدماء، وكان جواب الله لهم الترجيح أيضاً من جهةٍ أُخرى ولهذا لم يرد عليهم قولهم، إذ قد علم سبحانه أن الذي ظنوه فيهم ووصفوهم به كائن بل عدل الله سبحانه إلى أمر مجملٍ فقال:﴿ إنِّي أَعْلَمُ ما لاَ تَعْلَمُونَ ﴾ من ترتيب خلقي وتدبير صنعي المحوط بالحكمة الدال على القدرة فإني خلقت الملائكة من نورٍ لا ظلمة فيه، فكان منهم الخير المحض بإرادتي، وخلقت الشياطين من ظلمة نار السموم وهو المارج، فكان منهم الشر المحض بإرادتي، وخلقت آدم وذريته من نور وظلمةٍ، فكان منهم الخير و الشر بإرادتي، ووضعت فيهم عقلاً يرشد إلى المصالح، ونفساً ميالةً إلى الهوى المُردي، وأمددت الفريقين بجندينِ يسوقان العقل والنفس إلى ما سبق من التقدير الناشئ عن علم التدبير، وكان حكمي في هذين الفريقين أَنَّ من غلب عقله على هواه فهو من الناجين، ومن غلب هواه على عقله فهو من الهالكين وهذا ما اشتمل عليه قوله تعالى: ﴿ إنِّي أعْلَمُ ما لا تعلَمُونَ ﴾.

ومما اشتمل عليه ﴿ إنِّي أعْلَمُ ما لا تعلَمُونَ ﴾ أن اختلاف الصنائع أول دليلٍ على قدرة الصانع،ومما اشتمل عليه ﴿ إنِّي أعْلَمُ ما لا تعلَمُونَ ﴾ أني ركبتُ فيهمْ منَ الشهوةِ ما لو ركَّبته فيكم لفعلتمُ فِعلهم أو لم تطيقوا صَبْرهم على أنهم قد أحبوني محبةً بذلوا فيها أبدانهم للتمزيق، ودماءهم للإراقةِ، وأرواحهم للذهاب، ومنهم الصابرونَ على أنواع المكارهِ ، والصائمونَ في الهواجرِ،والعابدونَ على ضعف القوى، والناهون نفوسهم مع قوةِ الهوى، ويرونَ ذلكَ المرّ حلواً في رضائي، وتسليماً لقضائي وقدري، يسابقُ كلُّ وليٍّ منْهم بالعبادةِ أجلهُ، يؤتونَ ما أُتوا وقلوبهم وَجِلةُ، فظهرت حكمة الله عز وجل في خلقهم، ورجحت حجة الله سبحانه على الملائكة في قدحهم.
فأما إبليس فهو أول من اظهر الخلاف وركب العناد وسار به في البلاد.
والفرق بينه وبين الملائكة أن الملائكة لم يظهر منهم خلاف ولا عصيان، بل طلبوا بسؤَالهم الإيضاح والبيان .
وإبليس أفتى ودلَّ في مسألته فانقطع في مجادلته وخسر في كَرَّته وبيان فساد تعليله، وإزاغته عن الصواب في تأويله.
أنه قال:﴿خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ ﴾ ومعناه: أن النار جوهرٌ لطيفٌ شفافٌ له قوة الإشراق وسلطان الإحراق، والطين جسمٌ مظلمٌ كثيفٌ، ليس باللطيف ولا الخفيف.
والسجود خدمة يتضمن تعظيم المسجود له والأَوْلى بها الأعلى منهما، هذا منتهى كلامه ومضمون قوله وهو مردودٌ عليه من وجوه:
"منها": أنه عارض النص بالقياس وهو فساد في الاعتبار وعدم استبصار؛ لأن العمل بالنص مقدم على القياس؛ لأن سهام القياس تصيب مرة وتخطئ أُخرى. وكلام المعصوم المنزه عن الغلط والزلل لا يخطىُْ.
"ومنها": أن الماء والتراب والهواء والنار أصول الأجسام وموادُّ المركبات. فلا يقوم جسم إلاَّ باجتماعها، وإذا كانت متكافئة في التأثير فاختصاص أحدها بالأفضلية لا دليل عليه .
"ومنها": أن الطين اشتمل على أصلين من الأصول الأربعة وهما: الماء والتراب، فكيف يكون اصل واحدٍ منهما خيراً من أصلين متكافئين. وعلى تقدير تسليم التفاضل فالماء افضل؛ لأن سلطانه يقهر سلطان النار إذا التقيا.
"ومنها": على تقدير صحة قياسه فالترجيح للسجود من وجهين:
"أحدهما": أن مصلحة امتثال الأمر راجحةٌ على الامتناع؛ لأن امتثال الأمر آمن من العقاب المرتب على المخالفة.
"الوجه الثاني": أن الامتناع من السجود بهذا التعليل المذكور من جهته يلزم منه تخطئة الأمر إلى وضع الشيء في غير موضعه، وذلك في غاية الجناية على الإله الحكيم. وقد قال بعض المتكلمين: إن كل شبهةٍ وقعت في الملل فأصلها من شبهتي إبليس.
قال المصنف: بل هي شبهةٌ واحدةٌ مطردةٌ في كل مذهب فاسدٍ وقد ذكرنا ذلك في كتاب البروق. وأما الحجة فهي عبارة عن دليل الدعوى وقد تطلق على الشبهة أيضاً؛ لأنها مستند المخالفة. قال الله تعالى: ﴿ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهْم ﴾ ، وقال تعالى:﴿ لِئَلاَّ يُكونَ لِلنَّاسِ عَلَى الله حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ﴾، وقوله تعالى:﴿ فللَّهِ الحجةُ البالغةُ ﴾ أي الدليل القاطع الذي لا يعارضه معارض، وذلك قوله تعالى: ﴿ وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتيناهَا إبراهيمَ عَلَى قومِهِ ﴾، وقد قيل في قوله تعالى إخباراً عن إبليس﴿ ومَا كانَ لي عليكُم مِنْ سُلْطَانٍ ﴾ أي حجةٍ وإنما غرهم بالشبهةِ فالحجة حقيقةٌ في الدليل مجازٌ في الشبهةِ.

استخراج الجدال من القرآن الكريم .