المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : حكم الالتزام بمذهب معين


حذيفة غنيمات
04-26-2012, 08:44 PM
الحمد لله ذو المن والجود، الصمد المعبود، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد وعلى آله وأصحابه وسلم أجمعين، أما بعد:
فإن مسألة التزام مذهب معين مسألة مهمة في باب الاجتهاد والتقليد، نظراً لعموم البلوى بها ، ولأنها تمس ومست واقع المسلمين ردحاً من الزمان، وكانت هذه المسألة سبباً من جملة أسباب أخر أدت إلى وقوع المسلمين في ظلمات من الجمود والتعصب في قرون متطاولة من الزمان، إلا من رحم الله فلا يخلو الزمان من قائم لله بأمره.
وهذه المسألة متداخلة مع مسائل أخرى ،كحكم التقليد وأحكامه، و هل للعامي مذهب أم لا، وحكم اتباع غير الإمام الذي التزم مذهبه في بعض المسائل، وغيرها، والمقصود هنا بحث المسألة من غير تعريج على غيرها.

أولاً: آراء العلماء في المسألة وأدلتهم:
القول الأول: ذهب فريق من العلماء إلى أنه لا يلزم ذلك، وهذا هو الأصح عند الحنفية[1] وأحد الوجهين عند المالكية[2] والشافعية[3] والحنابلة[4].
القول الثاني: لزوم اتباع مذهب معين، وهذا الوجه الآخر عن المالكية والشافعية والحنابلة[5].
أدلة الفريق الأول:

الإجماع على عدم وجوب ذلك، وحُكي في ذلك إجماعان:



إجماع الصحابة ، حيث سوغوا للعامة "الاستفتاء لكل عالم في مسألة ولم ينقل عن السلف الحجر في ذلك على العامة لو كان ذلك ممتنعا لما جاز للصحابة إهماله والسكوت عن الإنكار عليه"[6].
" إجماع الأمة على أن من أسلم لا يجب عليه اتباع إمام معين بل هو مخير فإذا قلد إماما معينا وجب أن يبقى ذلك التخيير المجمع عليه حتى يحصل دليل على رفعه لا سيما الإجماع لا يدفع إلا بما هو مثله من القوة"[7].



أن الله سبحانه وتعالى لم يوجبه، ولا رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا دلت عليه لفظة من الصحابة ولا التابعين،" والذي أوجبه الله تعالى ورسوله على الصحابة والتابعين وتابعيهم هو الذي أوجبه على من بعدهم إلى يوم القيامة، لا يختلف الواجب ولا يتبدل"[8].
أنه يلزم من هذا القول إيجاب طاعة غير الله ورسوله صلى الله عليه وسلم في كل أمره ونهيه[9].

أدلة الموجبين للتمذهب :

الإجماع-ذكره بعضهم-، فإنه" لا يعلم أحد من المقلّدين يتردّد بين مذاهب علماء الإسلام المتقدّمين منهم والمتأخّرين, ففي مسألة يقلّد أبا بكر, وفي أخرى عمر, وفي ثالثة ابن عباس, وفي رابعة ابن مسعود, وهلمّ جرّا, ولا من يكون مقلّداً لطاووس, وعطاء, والحسن, والشّعبي, ولابن المسيّب, ولغيرهم ممّن كان وراءهم "[10].
أنه"لو جاز له اتباع أي مذهب شاء لأفضى الى أن يلتقط رخص المذاهب متبعاً هواه ومتخيراً بين التحريم والتجويز وفيه انحلال عن التكليف بخلاف العصر الأول فإنه لم تكن المذاهب الوافية بأحكام الحوادث حينئذ قد مهدت وعرفت"[11].

ثانياً: مناقشة الأدلة والترجيح:
والراجح القول بعدم لزوم التمذهب بمذهب معين، لقوة أدلة القائلين به، ويجاب عن الإجماع الذي ذكره الموجبون للتمذهب:

"أنه ادعاء للإجماع على ما المعلوم انعقاد الإجماع على نقيضه! والمعلوم أنّ العامّة ما كانت في زمن الصّحابة متحزّبة أحزاباً متفرّقة في التّقليد فرقاً بكريّة, وعمريّة, ومسعوديّة, وعبّاسيّ‍ة, كما أشار إليه, وإلا فمن الإمام في زمن الصّحابة الذي لم تكن العامّة تستفتي سواه ولا ترجع إلى غيره؟ وقد نقلت الفتيا عن أكثر من مائة نفس من الصحابة، فيلزم من هذا القول تشعّب مذاهبهم إلى غاية الاتساع, فيكون العامّة في زمنهم أكثر من مئة فرقة على عدد المفتين! "[12].
في قولهم:" لا يعلم أحد من المقلّدين يتردّد بين مذاهب ..."، " وهذا احتجاج بإجماع العامّة, وليس يعتبر بهم في الإجماع مع المجتهدين فكيف بهم منفردين؟"[13] ، و"لو سلّمنا أنّ إجماعهم حجّة لما دلّ على مذهبهم, لأنّه فعل لا قول, وفعل الأمّة دليل على الجواز لا على الوجوب"[14].
أما دعوى أن التنقل لم يحصل في المذاهب البتة فلا يعلمها إلا الله،" لأنّ الإحاطة بأعمال المقلّدين متعذّرة مع انتشارهم في أقطار الإسلام شرقاً وغرباً وشاماً ويمناً, ومع وجود المتساهلين منهم وجود الفسّاق المصرّحين"[15].

ويجاب عن دليلهم الثاني بأن تتبع الرخص موجود حتى مع التمذهب، والتمذهب لا يحول دونه؛لإن مرجعه إلى تقوى المكلف، وقولهم:" بخلاف العصر الأول فإنه لم تكن المذاهب الوافية بأحكام الحوادث حينئذ قد مهدت وعرفت" ليس بصحيح، ويلزم منه تفضيل أرباب المذاهب على القرون المفضلة!، والوفاء بأحكام الحوادث مكفول في نصوص الشريعة، على أنه لا يظهر لي وجه الدلالة من هذا الكلام، واتباع ما يظهر رجحانه من المذاهب هو اتباع للمذاهب – الوافية بأحكام الحوادث على حد تعبيرهم-.
ثالثاً: كلام نفيس لابن القيم رحمه الله في المسألة:
قال رحمه الله:" وهل يلزم العامي أن يتمذهب ببعض المذاهب المعروفة أم لا؟ فيه مذهبان: أحدهما: لا يلزمه، وهو الصواب المقطوع به؛ إذ لا واجب إلا ما أوجبه الله ورسوله، ولم يوجب الله ولا رسوله على أحد من الناس أن يتمذهب بمذهب رجل من الأمة فيقلده دينه دون غيره، وقد انطوت القرون الفاضلة مبرأة مبرأ أهلها من هذه النسبة، بل لا يصح للعامي مذهب ولو تمذهب به؛ فالعامي لا مذهب له؛ لأن المذهب إنما يكون لمن له نوع نظر واستدلال، ويكون بصيرا بالمذاهب على حسبه، أو لمن قرأ كتابا في فروع ذلك المذهب وعرف فتاوى إمامه وأقواله، وأما من لم يتأهل لذلك البتة بل قال: أنا شافعي، أو حنبلي، أو غير ذلك؛ لم يصر كذلك بمجرد القول، كما لو قال: أنا فقيه، أو نحوي، أو كاتب، لم يصر كذلك بمجرد قوله.
يوضحه أن القائل إنه شافعي أو مالكي أو حنفي يزعم أنه متبع لذلك الإمام، سالك طريقه، وهذا إنما يصح له إذا سلك سبيله في العلم والمعرفة والاستدلال، فأما مع جهله وبعده جدا عن سيرة الإمام وعلمه وطريقه فكيف يصح له الانتساب إليه إلا بالدعوى المجردة والقول الفارغ من كل معنى؟ والعامي لا يتصور أن يصح له مذهب، ولو تصور ذلك لم يلزمه ولا لغيره، ولا يلزم أحدا قط أن يتمذهب بمذهب رجل من الأمة بحيث يأخذ أقواله كلها ويدع أقوال غيره.
وهذه بدعة قبيحة حدثت في الأمة، لم يقل بها أحد من أئمة الإسلام، وهم أعلى رتبة وأجل قدرا وأعلم بالله ورسوله من أن يلزموا الناس بذلك، وأبعد منه قول من قال: يلزمه أن يتمذهب بمذهب عالم من العلماء، وأبعد منه قول من قال: يلزمه أن يتمذهب بأحد المذاهب الأربعة.
فيا لله العجب، ماتت مذاهب أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومذاهب التابعين وتابعيهم وسائر أئمة الإسلام، وبطلت جملة إلا مذاهب أربعة أنفس فقط من بين سائر الأئمة والفقهاء، وهل قال ذلك أحد من الأئمة أو دعا إليه أو دلت عليه لفظة واحدة من كلامه عليه؟ والذي أوجبه الله - تعالى ورسوله على الصحابة والتابعين وتابعيهم هو الذي أوجبه على من بعدهم إلى يوم القيامة، لا يختلف الواجب ولا يتبدل، وإن اختلفت كيفيته أو قدره باختلاف القدرة والعجز والزمان والمكان والحال فذلك أيضا تابع لما أوجبه الله ورسوله، ومن صحح للعامي مذهبا قال: هو قد اعتقد أن هذا المذهب الذي انتسب إليه هو الحق، فعليه الوفاء بموجب اعتقاده، وهذا الذي قاله هؤلاء لو صح للزم منه تحريم استفتاء أهل غير المذهب الذي انتسب إليه، وتحريم تمذهبه بمذهب نظير إمامه أو أرجح منه، أو غير ذلك من اللوازم التي يدل فسادها على فساد ملزوماتها، بل يلزم منه أنه إذا رأى نص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو قول خلفائه الأربعة مع غير إمامه أن يترك النص وأقوال الصحابة ويقدم عليها قول من انتسب إليه.
وعلى هذا فله أن يستفتي من شاء من أتباع الأئمة الأربعة وغيرهم، ولا يجب عليه ولا على المفتي أن يتقيد بأحد من الأئمة الأربعة بإجماع الأمة"[16]

حذيفة خضر غنيمات-القدس


_______________

[1] ابن عابدين، محمد أمين بن عمر بن عبد العزيز، حاشية رد المحتار على الدر المختار، 1 / 48 ، دار الفكر، بيروت، ط2، 1412هـ - 1992م.

[2] الحطاب، أبو عبد الله محمد بن محمد بن عبد الرحمن الرعيني، مواهب الجليل في شرح مختصر خليل، 1 / 32، دار الفكر، ط3، 1412هـ - 1992م.

[3] ابن الصلاح، تقي الدين أبو عمرو عثمان بن عبد الرحمن، أدب المفتي والمستفتي ، ص161 – 162، تح: د. موفق عبد الله عبد القادر، مكتبة العلوم والحكم ، المدينة المنورة، ط2، 1423هـ-2002م.

[4] ابن حمدان، أبو عبد الله أحمد بن حمدان بن شبيب الحراني،صفة الفتوى والمفتي والمستفتي،ص72، تح: محمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي ،بيروت،ط3، 1397.

[5] انظر: ابن عابدين، حاشية رد المحتار، 1/48، والحطاب، مواهب الجليل، 1/ 32، وابن الصلاح، أدب المفتي والمستفتي، ص161- 162، وابن حمدان، صفة الفتوى والمفتي والمستفتي، ص72.

[6] الحطاب الرعيني، مواهب الجليل، 1/32 ، وانظر: ابن القيم، شمس الدين محمد بن أبي بكر بن أيوب، إعلام الموقعين، 4/201، تح: محمد عبد السلام إبراهيم ،دار الكتب العلمية، بيروت ، ط1، 1411هـ - 1991م ، و : الزركشي، أبو عبد الله بدر الدين محمد بن عبد الله بن بهادر ، البحر المحيط في أصول الفقه، 8 / 374 ، دار الكتبي، ط2، 1414هـ - 1994م.

[7] الحطاب الرعيني، مواهب الجليل، 1/32.

[8] ابن القيم، إعلام الموقعين، 4/202. وانظر: الصنعاني، محمد بن إسماعيل، إرشاد النقاد إلى تيسير الاجتهاد، ص 168، تح: صلاح الدين مقبول أحمد، الدار السلفية ، الكويت،ط1، 1405.

[9] ابن تيمية، تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام، الاختيارات الفقهية، ص625، دار المعرفة، بيروت، 1397هـ-1978م.

[10] ابن الوزير، محمد بن إبراهيم بن علي بن المرتضى، الروض الباسم في الذب عن سنة أبي القاسم، 1/220، تح: علي العمران، دار عالم الفوائد.

[11] ابن الصلاح، أدب المفتي والمستفتي،ص162،ابن حمدان، صفة الفتوى والمفتي والمستفتي، ص72.

[12] ابن الوزير، الروض الباسم، 1/221-222، بتصرف كبير.

[13] المصدر نفسه، 1/224.

[14] المصدر نفسه، 1/225، بتصرف.

[15] المصدر نفسه، 1/226.

[16] ابن القيم، إعلام الموقعين، 4/201-202.