المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : نَصيحةٌ إلى الطّاعنين في عُلَمائنا


محمد الحريري
03-16-2011, 02:42 PM
أحق ما أستفتح ُبه الكلام ؛الحمدُ لمولانا الكريم ، على قديم إحسانه وتواتر نعمائه. وأسأله المزيد من فضله، والشكرَ على ما تفضَّل به من نعمه، إنه ذو فضل عظيم. والصلاة والسلام الأتمَّان الأكملان على محمد عبده ورسوله، وأمينه على وحيه وعباده و على آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فقد أردت أن أقدم في خِضّمِّ هذه السلسلة من الطعن في علماء الأمة - سواء من الحدادية أو أتباع الحلبي والمأربي وغيرهما من أهل البدع - نصيحة وتذكيرا لهؤلاء الذين يَرْتَعون في "ضِيافة الفُسَّاق" ومجالس الثَّلب والفِتْنَة،صدَّاً عن سبيل الله، وتشْويها لوجه الحق.
نصيحة ليست من كيسي ولا من نظْمي؛ بل من إمام ناصح عارف، له كلام متين في السلوك على طريقة السنة،بل وصفه شيخه شيخ الإسلام ابن تيمية-رحمه الله تعالى-بأنه:"جُنَيْد وقته".وانظر ترجمته في: " العقود الدرية" لابن عبد الهادي :و" الدرر الكامنة" للحافظ ابن حجر، و "شذرات الذهب " لابن العماد، و" الرد الوافر" لابن ناصر الدين، و" معجم شيوخ الذهبي" و طالع رده على ابن عربي الحاتمي - شيخ السوء - في كتابه:"باشورة النصوص في هتك أستار الفصوص" فإنك تندهش و يطول تعجبك.
وتكون تنبيها للغافلين عن هذه الجناية العظيمة، وانتصارا لعلماء الأمة، فإن نُصرتهم نُصرة لدين الله، فَهُم طَلَبَتُه وحَمَلَته، والله-سبحانه-يقول:{* إِنْ تَنْصُرُواْ اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ *} [محمد:07].
وهذه "النصيحة" مُتَضّمِّنة "لفَصْلين" مُسْتَلَّين من رسالة الشيخ العلامة العارف أحمد بن إبراهيم الواسطي المعروف ب"ابن شيخ الحزَّامين"-رحمه الله تعالى-لأصحابه من تلاميذ شيخ الإسلام ابن تيمية- رحمه الله تعالى - سمَّاها :" التذكرة والاعتبار والانتصار للأبرار" كتبها وصيَّة لأتباع الشيخ بالثبات على نصرة السنة والذَّب عن الشيخ ونُصرته.[ ضمن " العقود الدرية لابن عبد الهادي" (ص/229-252) و " الجامع لسيرة شيخ الإسلام ابن تيمية خلال 7 قرون " لعلي العمران وعزير شمس (ص 109-150) وطبعت مفردة مرتين: بتحقيق الحلبي - هداه الله - و تحقيق الفريوائي ].
قال الشيخ العلامة بكر بن عبد الله أبو زيد-رحمه الله تعالى-:"ففيها-يعني الرسالة-من جلاء أصداء القلوب ما الله به عليم" ووصف "الفصلين" المذكورين ب:"اللَّفتات النَّفيسة"(*).
ومما حركني أكثر لنشر هذين الفصلين النفيسين أني لما قرأتهما وجدتهما يتنزلان على ما في عصرنا حذو القُذَة بالقُذَّة، فكأن الإمام-رحمه الله- يتكلم على أهل هذا الزمان ممن ألبس بعضهم الفضيحةَ ثوبَ النَّصيحةِ، وأظهر الإنصاف ليستر الاعتساف، ففضحهم وهتك سترهم فلله درّه.
وفي الأخير أسأل الله العظيم ذي الجلال والإكرام أن يجعل هذا العمل خالصا لوجهه الكريم وذُخرا لي يوم لا ينفع مال ولا بنون، إلا من أتى الله بقلب سليم، وأن ينفع به من وفقه بفضله، وأن يجعله زجرا لهؤلاء الأغمار الأغرار، ونصرة لعلمائنا الأبرار، وصلى الله على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله الأطهار وصحبه الأخيار.


فَصْلٌ
"وِ إذا عِرِفْتم قدْر دين الله تعالى الذي أِنْزله على رسوله - صلى الله عليه وسلّم- ،وعرفتم قدْر حقائق الدين التي يُعَبَّرُ عنها بالنفوذ إلى الله تعالى،والحظوة بقربه، ثم عرفتم اجتماع الأمرين في شخص معيَّن، ثم عرفتم انحراف الأمة عن الصراط المستقيم، وقيام الرجل المعيَّن الجامع للظاهر والباطن في وجوه المنحرفين، ينصر الله تعالى ودينه،ويُقَوِّمُ مُعوجهم، يَلُمُّ شَعَثهم، ويصلح فاسدهم، ثم سمعتم بعد ذلك طَعْن طاعنٍ عليه من أصحابه أو من غيرهم، فإنه لا يخفى عليكم مُحِقٌّ هو أو مبطل؟ إن شاء الله.
وبرهان ذلك: أن المُحِقَّ يطلب الهدى والحق يَعرِض عند من أنكر عليه ذلك الفعل الذي أنكره، إما بصيغة السؤال أو الاستفهام بالتلطف عن ذلك النقص الذي رآه فيه ، أو بلغه عنه ، فإن وجد هناك اجتهادا، أو رأيا أو حجة ، قنع بذلك ، وأمسك ، ولم يُفْشِ ذلك إلى غيره ، إلا مع إقامة ما بَيَّنَهُ من الاجتهاد، أو الرأي ، أو الحجة ، ليَسُد الخَلَل بذلك.
فمثل هذا يكون طالب هدى ، مُحِبّا ، ناصحاً ، يطلب الحق ، ويروم تقويم أستاذه عن انحرافه بتعريفه وتفويضه، كما يروم أستاذه تقويمه، كما قال بعض الخلفاء الراشدين- ولا يحضرني اسمه -:"إذا اعْوَجَجْتُ فَقَوِّمونِي"(1).
فهذا حقٌّ واجبٌ بين الأستاذ والطالب، فإن الأستاذ يطلب إقامة الحق على نفسه ليقوم به ، ويَتَّهم نفسه أحياناً ، ويتعرّف أحواله من غيره ، مما عنده من النَّصَفَةِ وطلب الحق ، والحذر من الباطل ، كما يطلب المريد ذلك من شيخه من التقويم ، وإصلاح الفاسد من الأعمال الأقوال .
ومن براهين المُحِقِّ : أن يكون عَدْلا في مدحه ، عَدْلا في ذمِّه ، لا يحمله الهوى –عند وجود المُراد – على الإفراط في المدح ، ولا يحمله الهوى- عند تعَذُّرِ المقصود- على نسيان الفضائل والمناقب ، وتعديد المساوئ والمثالب .
فالمُحِقُّ في حَالَتيْ غضبه ورضاه ثابتٌ على مدحِ من مدحه وأثنى عليه ؛ ثابتٌ على ذم من ثَلَبَه وحَطَّ عليه.
و أما من عَمِلَ كُرَّاسَةً في عَدِّ مثالب هذا الرجل القائم بهذه الصفات الكاملة بين أصناف هذا العالم المنحرف، في هذا الزمان المظلم، ثم ذكر مع ذلك شيئا من فضائله، ويعلم أنه ليس المقصودُ ذكرُ الفضائل، بل المقصودُ تلك المثالب، ثم أخذ الكُرَّاسَةَ يقرؤها على أصحابه واحدًا واحداً في خَلْوَةٍ، يوقف بذلك هَمَّهُم عن شيخهم، ويريهم قدحاً فيه، فإني أستخيرُ اللهَ تعالى وأجتهدُ رأييَ في مثلِ هذا الرجلِ، وأقولُ انتصاراً لِمن يَنصًرُ دينَ اللهِ، بينَ أعداءِ اللهِ في رأسِ السَّبعِمائة، فإن نصرةَ مثل هذا الرجلِ واجبة على كلَّ مؤمنٍ، كما قال ورقةُ بن نوفل :" لَئِن أدْركَني يَومُكَ لأنصُرَنَّك نصراً مُؤََزَّراً "(2). ثم أسألُ الله تعالى العِصْمةَ فيما أقولُ عن تَعَدِّي الحدود والإخلادِ إلى الهوى. أقول : مثل هذا- ولا أُعَيِّن الشّخصَ المذكورَ بعيْنه – لا يخلو من أمور :
أحدها: أن يكون ذا سِنٍّ تغيَّر رأيهُ لسِنِّه؛ لا بمعنى أنه اضطرب بل بمعنى أن السِنَّ إذا كبِرَ يجتهِدُ صاحبه للحَقِّ، ثم يضعُه في غير مواضِعِه، مثلاً يجتهد أن إنكارَ المُنْكَر واجبٌ، و هذا مُنكرٌ، وصاحبه قد راج على الناس، فيجب عليَّ تعريفُ النَّاسِ ما راج عليهم، وتَغيبُ عليه المفاسد في ذلك .
فمنها: تخذيلُ الطَّلبةِ، و هم مضطرونَ إلى محبةِ شيخهم، ليأخذوا عنه، فمتى تغيَّرت قلوبهم عليه ورَأَوْا فيه نقْصاً حرموا فوائدهُ الظاهرةَ والبطانة؛ وخِيفَ عليهم المقتُ من الله أوَّلاً، ثم من الشيخ ثانياً.
المَفسَدةُ الثانية : إذا شعر أهل البدعِ الذين نحن وشيخنا قائمون الليلَ والنهارَ بالجهادِ والتَّوَجُّه في وجوههم لنصرة الحق؛ أن في أصحابنا من ثَلَبَ رئيسَ القَوم بمثل هذا، فإنهم يتطرَّقون بذلك إلى الاشْتِفاء من أهل الحقِّ ويجعلونه حجَّةً لهُم .
المفسدة الثالثة : تعديدُ المثالبِ في مقابلةِ ما يستغرقها و يزيدُ عليها بأضعاف كثيرة من المناقب، فإن ذلك ظلم وجهل .
و الأمر الثاني من الأمر الموجب لذلك: تغيُّر حاله وقلبه، وفسادُ سُلوكه بحسدٍ كان كامناً فيه، وكان يكتمه بُرهةً من الزمان، فظهَرَ ذلك الكَمِينُ في قالبٍ؛ صورتُهُ حَقٌّ ومعناه باطلٌ.
فَصْلٌ
و في الجُملة - أيَّدَكُم الله – إذا رأيتم طاعناً على صاحبكم فافتقدوه في عقله أولاً، ثم في فهْمِه، ثم في صِدقه، فإذا وَجَدتُم الاضطراب في عَقله، دَلَّكُم على جهْلِهِ بصاحِبكم، وما يقول فيه وعنه، ومِثلُه قِلَّة الفهم، ومثله عدم الصدق، أو قصوره، لأن نُقصان الفهمِ يُؤَدِّي إلى نُقصانِ الصِّدق بحسب ما غاب عقله عنه، ومثله العُلوُّ في السِّن فإنه يشيخُ فيهِ الرَّأْيُ والعقلُ كما تشيخُ فيه القُوى الظَّاهرة الحِسِّية، فاتَّهموا مثلَ هذا الشخص واحذروه، وأعرضوا عنه إعراضَ مُدَاراَة بلا جدلٍ ولا خُصومةٍ .
وصفةُ الامتحان بصحَّة إدراك الشخص وعقله وفهمه : أن تسأله عن مسألة سلوكية، أو علمية، فإذا أجاب عنها فأوردوا على الجواب إشكالا متوجها بتوجيه صحيح، فإن رأيتم الرجل يروح يمينا وشمالا، ويخرج عن ذلك المعنى إلى معان خارجة، وحكايات ليست في المعنى حتى ينسى رب المسألة سؤاله، حيث تَوَّهَهُ عنه بكلام لا فائدة فيه، فمثل هذا لا تعتمدوا على طعنه، ولا على مدحه، فإنه ناقص الفطرة، كثير الخيال، لا يثبت على تحرِّي المدارك العلمية، ولا تُنْكروا مثل إنكارِ هذا، فإنه اشتهر قيام ذي الخويصرة التميمي إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم- وقوله له : " اعْدِلْ- فَإِنَّكَ لَمْ تعْدِل- إنَّ هَذِه قِسْمَةٌ لَمْ يُرَدْ بِها وَجْهُ الله تعالى "(3)أو نحو ذلك.
فوقوع هذا وأمثاله من بعض معجزات الرسول- صلى الله عليه وسلم – فإنه قال :"لَتَرْكَبُنَّ سَنَنَ من كان قبلكم حَذْوَ القُذَّةِ بالقُذَّةِ "(4)، وإن كان في اليهود والنصارى، لكن لما كانوا منحرفين عن نهج الصواب، فكذلك يكون في هذه الأمّة من يحْذو حَذْو كل منحرف وجد في العالم، متقدِّما كان أة متأخرا، حَذْو القُذَّة بالقُذَّة، حتى لو دخلوا جُحْر ضَبٍّ لدخلوه.
يا سبحان الله العظيم! أين عقول هؤلاء؟ أعميت أبصارهم وبصائرهم؟ أفلا يرون ما الناس فيع من العمى والحيرة في الزمان المظلم المُدْلَهِمّ، الذي قدملكت فيه الكفار معظم الدنيا؟ وقد بقيت هذه الخُطَّة الضَّيَّقة، يشُمُّ المؤمنون فيها رائحة الإسلام؟ و في هذه الخُطَّة الضَّيَقة من الظلمات من علماء السوء والدعاة إلى الباطل وإقامته ، ودحض الحق وأهله ما لا يُحصر في كتاب، ثم إن الله تعالى قد رحم هذه الأمة بإقامة رجل قوي الهمة، ضعيف التركيب، قد فرَّق نفسه وهمه في مصالح العالم، وإصلاح فسادهم، والقيام بمهماتهم وحوائجهم، ضمن ما هو قائم بصد البدع والضلالات، وتحصيل مواد العلم النبوي الذي يصلح به فساد العالم، ويردهم إلى الدين الأول العتيق جهد إمكانه! وإلا فأين حقيقة الدين العتيق؟
فهو مع هذا كله قائم بجملة ذلك وحده، وهو منفرد بين أهل زمانه، قليل ناصره، كثير خاذله، وحاسده، والشامت فيه!!.
فمثل هذا الرجل في هذا الزمان ، وقيامه بهذا الأمر العظيم الخطير فيه ، أيقال له: لم يرد على الأحمدية ؟ لم لا تعدل في القسمة ؟ لم تَدخل على الأمراء ؟ لم تقرب زيدا وعمرا؟
أفلا يَسْتَحْيِي العبد من الله ؟ يذكر مثل هذه الجزئيات في مقابلة هذا العِبْء الثقيل ؟ و لو حُوقِقَ الرجل على هذه الجزئيات وُجد عنده نصوص صحيحة، ومقاصد صحيحة ونِيَّات صحيحة !! تغيب عن ضعفاء العقول، بل عن الكُمَّل منهم، حتَّى يسمعوها .
أمارده على الطائفة الفلانية أيها المُفْرِط التَّائه ، الذي لا يدري ما يقول ، أفيقوم دين محمد بن عبد الله الذي أُنزل من السماء ، إلا بالطعن على هؤلاء ؟ وكيف يظهر الحق إذا لم يُخذل الباطل ؟ لا يقول مثل هذا إلا تائه ، أو مُسِّن أو حاسد .
وكذا القسمة للرجل ، في ذلك اجتهاد صحيح، ونظر إلى مصالح تترتب على إعطاء قوم دون قوم ، كما خَصَّ الرسول – صلى الله عليه وسلم – الطُّلقاء بمئة من الإبل، وحَرَمَ الأنصار! حتى قال منهم أحداثهم شيئا في ذلك ، لا ذووا أحلامهم ، وفيها قام ذو الُخوَيْصِرة فقال ما قال !
و أما دخوله على الأمراء فلو لم يكن ، كيف شم الأمراء رائحة الدين العتيق الخالص؟ ولو فَتَّش المُفَتِّش، لوجد هذه الكيفية التي عندهم من رائحة الدين، ومعرفة المنافقين ، إنما اقتبسوها من صاحبكم.
و أما تقريب زيد وعمرو، فلمصلحة باطنة ، لو فُتَّش عنها مع الإنصاف وجد هنالك ما يرى أن ذلك من المصلحة ، ونفرض أنك مصيب في ذلك ، إذ لا نعتقد العصمة إلا في الأنبياء ، والخطأ جار على غيرهم ، أَيُذكرُ مثل هذا الخطأ في مقابلة ما تقدم من الأمر العظام الجسام ؟
لا يذكر مثل هذا في كراسة ويُعددها، ثم يدور بها على واحد واحد ، كأنه يقول شيئا، إلا رجل نسأل الله العافية في عقله، وخاتمة الخير على عمله ، وأن يرده عن انحرافه إلى نهج الصواب ، بحيث لا يبقى مَعْشَرُه يَعيبه بعلمه ، وتصنيفه من أولي العقول والأحلام.
ونستغفر الله العظيم ، من الخطأ والزلل، في القول والعمل ، والحمد له وحده ، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم." اه.


قال الإمام الشاب شمس الدين محمد ابن عبد الهادي بعد إيرادها (ص/252):( فرحم الله من قام بحمل الإصرار،و تصحيح التوبة النصوح بالاستغفار، إلى عالم الأسرار، نفعَ اللهُ من وقف عليها، وأصغى إلى ما يفتح منها ولديها. آمين) اه

و آخر دعوانا أن الحمدُ للهِ ربِّ العالمين



-------------
(*) في مقدمته لكتاب:" الجامع لسيرة شيخ الإسلا ابن تيمية".
(1)جاء نحوه عن أبي بكر-رضي الله عنه.
(2) رواه البخاري.
(3) متفق عليه.
(4) متفق عليه.

أبو عبد الرحمن محمد العكرمي
03-16-2011, 06:43 PM
جزاك الله خيرا أخي محمد الحريري نقلك الماتع