المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : أهمِّيةُ الرَّدِّ علَى المخالفِ، وبيانُ جُمْلَةٍ مِنْ ثَمَارهِ (ست حلقات ) لشيخ عبد الله البخاري


أبو عبد الرحمان بحوص
08-02-2010, 10:01 AM
بسم الله الرَّحمن الرَّحيم


الْحَمْدُ لله رَبِّ العَالِمين وَالصَّلاةُ وَالسَّلاَمُ عَلى نَبيِّنا مُحمَّدٍ وآله وصَحْبهِ أَجْمَعين، وَبعدُ:

تمهيدٌ:

فَإنَّ الله عزَّ وجلَّ قَدْ أَتَمَّ عَليْنَا النِّعمة بِأَنْ أَرْسَلَ إلينا خَيرَ رُسله مُحمَّداً صلى الله عليه وآله وسلَّم،

وأَنْزَلَ عَليهِ خَيرَ كُتُبه الَّذي (لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) (فصلت:42).

وَتَكَفَّلَ سُبْحَانَهُ بِحِفْظهِ فَقَال ( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) (الحجر:9).

[/font] ووجه الدلالة: أنَّ الله تعالى تَكفَّل بِحِفْظ الذِّكر الَّذي أَنْزَلَهُ، وَالذِّكْرُ يَشْمَلُ الكتَاب وَالسُّنَّة،
فَكِلاَهُما مُنْزَلٌ مِنْ عِنْدِ الله بِنَصِّ الآية، وكلاَهُما مَحْفُوظٌ، قَال الْحَافِظُ ابنُ حَزْمٍ:" وَضَمَانُ الله تعالَى قَدْ صَحَّ فِي حِفْظِ كُلّ مَا قَالَهُ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم " ( النُّبذ )(ص 86).

لذَا فَإنَّ مِنْ أَهمِّ و آكَد الوَاجِبَات الْمُحَافَظةُ عَلى الشَّريعة الْمُحَمَّدية، وصيَانتهَا وَتَنقيتهَا مِنَ الدَّخيل، وَ قَدْ أَدْركَ الصَّحابةُ رضي الله عنهم هَذا الوَاجب؛ فَقَاموا به حَقَّ قيامٍ، وتَبعهم عليه مَنْ سلكَ سبيلهم من التَّابعين وأئمَّة الدِّين والملَّة، قَالَ الحافظ أبو حاتم ابنُ حبَّان البستي (ت 354هـ):" فُرْسَانُ هَذا العِلْم الَّذين حَفِظُوا عَلى الْمُسْلِمينَ الدِّين، وهَدوهم إلى الصِّراط المستَقيم، الَّذين آثروا قَطْعَ الْمَفَاوِزِ وَ القِفَار علَى التَّنَعُم في الدِّيار والأوْطان في طَلَبِ السُّنَنِ في الأمْصَارِ، وجَمْعِها بالرَّحَلِ والأسْفار والدَّورانِ في جميعِ الأقطارِ،حتَّى إنَّ أحدَهم لَيَرْحُلُ في الحديثِ الواحِدِ الفَرَاسخَ البعيدة وفي الكَلمةِ الواحدةِ الأيامَ الكثيرةَ، لِئَلا يُدْخِلَ مُضِلٌّ في السُّنَنِ شيئاً يُضِلُّ به، و إنْ فَعَلَ فَهُمُ الذَّابُّونَ عَنْ رسول الله صلى الله عليه وسلَّم ذَلك الكَذب، والقَائمونَ بنُصْرةِ الدِّينِ"[/color] (المجروحين)(1/27).


وَ إنَّ من المسلَّماتِ أنَّ الصِّراعَ بين الحقِّ والباطل بَاقٍ ومُستمرٍ حتَّى قيام السَّاعة، وعليهِ فلا بُدَّ - والحالة هذه- اسْتِمْرَارُ مَنْهج الصَّحابة رضي الله عنهم والتَّابعين وأئمَّة الدِّين:
مِنْ حِرَاسةِ الشَّريعة المحمَّدية مِنْ تَحريفِ الغَالين وانْتِحَال المبطلين وتَأْويل الجاهلين، وَ الْمُحَافَظة عَلى بقائها نقيَّة صافية، مَعَ القِيامِ بِمَا أَوجبَ اللهُ مِنْ بَيَان الحقِّ للخلقِ وردِّ الباطل.
وفي نصوص الشَّرْع مَا يدَلَّ على ذَلكَ:


ووردَ نحوهُ من حديث المغيرة رضي الله عنه في الصَّحيحين أيضاً، ومنْ حديث جابر رضي الله عنه عند مسلم، و عَنْ غيرهما منَ الصَّحابة رضي الله عن الجميع.



( تَلاَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلَّم هَذِهِ الآيةَ{هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ رسول الله صلى الله وسلَّم :
1/ ما أخرجهُ البخاريُّ في (صحيحه) (13/رقم 7022) واللفظ له، ومسلمٌ في (الصَّحيح)(رقم 1037) منْ حديث معاويةرضي الله عنه قال: سمعتُ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلَّم يقولُ: ( لا يَزَالُ مِنْ أُمَّتي أمَّةٌ قائمةٌ بأمرِ اللهِ، مَا يَضُرُّهم مَنْ كذَّبهم وَلا مَنْ خَالَفَهُم حَتَّى يَأْتِي أَمْرُ اللهِ وَهُمْ عَلَى ذَلِكَ ). 2/ ما أخرجه البُخاريُّ في (صحيحه)(8/رقم 4547/209- فتح) واللفظ له، ومسلمٌ في (الصحيح) (16/ ص 216- نووي) مِنْ حَديثِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: فَإِذَا رَأَيْتِ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ فَأُولَئِكِ الَّذِينَ سَمَّى اللَّهُ فَاحْذَرُوهُمْ ).

وجهُ الاستدلال: ما قَاله الحافظُ النَّووي في (شرحه لصحيح مسلم)(16/218):" في هَذا الْحَديثِ التَّحْذيرُ مِنْ مُخَالَطَةِ أَهْلِ الزَّيغِ وأَهْلِ البِدَعِ وَ مَنْ يَتَّبعُ الْمُشْكلاَت للفِتْنةِ..".

3/ وَ أيضاً قَوله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم (سَيَكُون في آخر أمتي نَاسٌ يُحدِّثونكم بِمَا لَمْ تَسْعَمُوا أَنْتُم وَ لا آبَاؤُكُم فَإيَّاكُمْ وَإيَّاهُمْ)، أَخرجه مسلمٌ في (مقدِّمة الصَّحيح)(رقم 6) (باب النهي عن الرواية عن الضعفاء والاحتياط في تحملها).
قال الإمامُ البغوي في (شرح السنة)(1/ص 223):" حديثٌ حسنٌ..".

وجه الاستدلال: أنَّ النَّبي صلى الله عليه وآله وسلَّم أخبرَ بِهَذا الغَيْبِ عَنْ أَقوامٍ يَأتونا بِمَا يُخَالِفُ الشَّرْعَ، فَأَمَرَنَا بِمُجَانبتهم، وحذَّرنا منْهُم.

إذَا تقرَّر هذا لابُدَّ وأنْ يُعلمَ أنَّ:
منَ الأصول الشَّرعيَّة المقرَّرة والمدلَّل عليها من الكتاب والسُّنَّة وعمل سلفِ الأمَّة الصَّالح: الرَّدُّ على المخالفِ ومخالفتِهِ.

1/ قَالَ الإمام مُحمَّدُ بْنُ يَحيى الذهلي: سمعتُ يَحيى بن معين يقولُ: " الذَّب عنِ السُّنَّةِ أفضل من الْجَهادِ فِي سبيل الله.
فقلتُ ليحيى: الرَّجُلُ يُنْفِقُ مَالَهُ وَ يُتْعِبُ نَفسهُ وَ يُجَاهِدُ، فَهذَا أفضل منْه؟! قَالَ: نَعَمْ، بِكَثيرٍ".
(سير أعلام النبلاء) للذهبي (10/518).

2/ قالَ الإمامُ عثمان بن سعيد الدارمي في (الرَّد على الجهمية)(ص18/ رقم 15):"..فحينَ رأينا
ذلكَ منهم، وفطنَّا لمذهبهم، وما يَقصدونَ إليه من الكُفر وإبطالِ الكتُب والرُّسل، ونفي الكَلام والعِلْم والأمر عن الله تعالى، رأينا أنْ نُبيِّن من مذاهبهم رسوماً من الكتاب والسُّنَّة وَ كلام العُلماءِ، ما يَسْتدل به أهل الغفلةِ منَ النَّاسِ على سوءِ مذْهَبهم، فيحذروهم على أنفسهم وعلى أولادهم وأهليهم، ويجتهدونَ في الرَّدِّ عليهم، محتسبين منافحين عن دين الله تعالى، طالبين به ما عند الله".

3/ قَالَ شيخُ الإسلام ابن تيميَّة كما في (المجموع)(28/231-232):" ومثل أئمَّة البِدَعِ مِنْ أهل المقالات المخالفةِ للكتاب والسُّنَّة، أو العِبَادات المخالفة للكتِابِ وَالسُّنَّة، فإنَّ بَيانَ حَالهم، وتَحذيرَ الأُمَّةِ مِنْهُم، واجبٌ باتِّفاق المسلمين، حَتَّى قيل لأحمد بن حنبل: الرَّجل يَصُوم وَ يُصلِّي ويعتكفُ أحب إليك أو يتكلَّم في أهل البدعِ؟ فقال: إذا قَام وصلَّى واعتكفَ فإنَّما هو لنفسهِ، وإذا تكلَّم في أهلِ البدعِ فإنَّما هو للمسلمين، هذا أفضل.

فبيَّن أَنَّ نَفْعَ هَذا عامٌّ للمسلمين فِي دِينهم، مِنْ جِنْسِ الْجِهَادِ فِي سَبيل الله؛ إذْ تَطْهِيرُ سَبِيْل الله وَ دِيْنهِ وَ مِنْهَاجهِ وَشِرْعَتهِ، ودفع بغي هَؤلاء وعُدوانهم علَى ذَلك، وَاجبٌ علَى الكِفَايَةِ باتِّفاقِ المسلمينَ، ولَولا مَنْ يُقِيْمهُ الله لدَفْعِ ضَرَرِ هَؤلاء لَفَسَدَ الدِّين، وكانَ فَسَادُهُ أَعظم مِنْ فَسادِ اسْتِيْلاءِ العَدوِّ مِنْ أَهْلِ الْحَربِ؛ فإنَّ هَؤلاء إذَا اسْتَولوا لَمْ يُفْسِدُوا القُلُوبَ وَمَا فيها مِنَ الدِّينِ إلاَّ تَبَعاً، وأمَّا أُولئكَ فَهُمْ يُفْسِدُونَ القُلُوبَ ابْتِدَاءً".

وقالَ أيضاً:" المقصودُ أنَّ هذه الأُمَّة- ولله الحمد- لم يزلْ فيها مَنْ يتفطَّنُ لما في كلامِ أهلِ البَاطلِ و يردّه، وهم لما هداهم الله به، يتوافقونَ في قبولِ الحقِّ، وردِّ البَاطلِ رأياً وروايةً من غير تشاعرٍ ولا تواطؤٍ" (المجموع)(9/233).

4/ وقالَ الإمامُ ابنُ القيِّم في (مفتاح دار السعادة)(1/103) في وصْف أهل السُّنة وجهَادهم :" فَكْمْ مِنْ قَتِيْلٍ لإبليس قد أَحْيَوه، ومِنْ ضَالٍ جاهلٍ لا يَعْلَم طَريق رشده قَدْ هدوه، ومِنْ مُبْتَدعٍ في دينِ الله بشُهُبِ الْحقِّ قد رَموهُ، جِهَاداً في الله، وابتغاء مَرضاته..".
وقال في النُّونيَّة:
(هذا ونصرُ الدِّين فرضٌ لازم...لا للكفاية بل على الأعيان
بيدٍ وإما باللسان فإنْ عجز...ت فبالتَّوجه والدعا بجنان).


وقالَ أيضاً في (مدارج السَّالكين)(1/372):" واشْتدَّ نكيرُ السَّلفِ والأئمَّة لَهَا- أي البدعة-، وصَاحوا بأهلهَا مِنْ أَقطار الأرضِ، وحَذَّروا فِتْنَتَهُمْ أَشدَّ التَّحذير، وبَالغوا في ذلك ما لَمْ يُبَالِغُوا مثله فِي إنكار الفَواحشِ، وَالظُّلم، والعُدوان؛ إذْ مَضرَّةُ البِدَعِ، وَهَدْمِهَا للدِّينِ، وَمنافاتها لَه أَشدّ".

وقال في (هداية الحيارى)(ص 10):" مِنْ حقِّ الله على عبادهِ رد الطَّاعنينَ على كتابهِ ورسولهِ،ودينهِ، ومجاهدتهم بالحجَّةِ والبيان، والسَّيفِ والسِّنان، والقلبِ والجنان، وليس وراء ذلك حبَّة خردل من إيمان".

5/ عَقدَ العَلاَّمة ابنُ مفلح في (الآداب الشَّرعية)(1/230) فَصْلاً فقالَ:" فَصْلٌ: في وُجُوبِ إبْطَالِ البِدَعِ الْمُضِلَّةِ، وَإقَامَةِ الْحُجَّة عَلى بُطْلانِهَا".
ثُم قالَ:" قالَ في (نِهَاية المبتدئين): ويَجِبُ إنكارُ البدعِ المضلَّة، وإقامة الحجَّة على إبطالها، سواءٌ قَبِلَها قائلها أو ردَّها، ومَنْ قدر على إنهاءِ المنكر إلى السُّلطان أنهاهُ، وإنْ خَافَ فوتهُ قبل إنهائهِ أنكرهُ هُو".
لعلَّ فيما سبق منَ هذا التَّمهيد يتَّضحُ لنا أهميَّة الرَّدِّ عَلَى الْمُخَالِفِ.
فالله أسأل التوفيق والسداد للجميع، وصلى الله على نبينا محمدٍ وآله وصحبه وسلَّم.

وكتب
عبدالله بن عبدالرحيم البخاري- كان الله له-
المدينة النبوية
في 16/ ذي الحجة/ 1429هـ
(يتبعه في حلقة أخرى -بحول الله- الكلام عن جملة من ثمار الرَّد على المخالف)

أبو عبد الرحمان بحوص
08-02-2010, 10:13 AM
بسم الله الرحمن الرَّحيم

الحمدُ لله ربِّ العالمين والصَّلاة والسَّلام على نبيِّنا محمَّدٍ وآله وصحبه أجمعين، أمَّا بعدُ:

فقد سبقَ أنْ كتبتُ منذُ زمنٍ مقالاً بعنوان (أهميَّة الرَّدِّ على المخالفِ وبيانُ جملةٍ من ثماره)، وذكرتُ في ذلكم المقال ما يتعلَّق بشطرِ العنوان الأول، أعني (أهمية الرَّدِّ على المخالف)، ووعدتُ بأنني سأُتبعه بما يتعلَّق بذكر جملةٍ من ثمرات الرَّدِّ على المخالف؛ فهذا إيفاءٌ بالوعدِ المذكور، والله أسأل التَّوفيق والسَّداد في القول والعمل، إنَّه سميعٌ مجيب.

وهنا ألفتُ إلى أمرٍ؛ وهو أنَّني في أثناء كتابتي لـ(الثمرات)، بدا لي أنْ أتطرَّق إلى بيانِ نقاطٍ عدَّة لها علاقة بالموضوع والمقال، وللحاجة إليها فيما يبدو لي- ولعله لغيري أيضاً-، وهذه النِّقاطُ هي كالتالي:

النقطة الأولى: المرادُ بالمخالف هنا؟
النقطة الثانية: التفرقة بين العالم المخطئ والأتباع.
النقطة الثالثة: واجبنا تجاه غلط وخطأ العالم السُّنِّي.
النقطة الرابعة: ذكر بعض الأمور التي ينبغي توفُّرها فيمن يتولى الرد على المخالف.
النقطة الخامسة: ذكرُ جملة من ثمار الرد على المخالف.

وطريقتي في عرض هذه النقاط: أنني أعنون للنقطة، مع بيانٍ مُختصر لها، مُدلِّلاً عليها بأقوالِ سلفنا وأئمتنا رضي الله عنهم، تَقريباً للمَعْلومة وإيضاحاً لها.

وليعلم الجميعُ:أنَّ ما أقومُ به، وما يقومُ به غيري من أهل العلم وطلابه الجادين، إنَّما هو جمع و ترتيب و بيان و تقريب كلام أئمتنا المبثوث في كتبهم، والمنقول عنهم في كتب من بعدهم من علماء أهل السنة، فأسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن ينفعني بما أبذله لوجهه الكريم يوم العرض عليه يوم لا ينفع مالٌ ولا بنون إلا من أتى الله بقلبٍ سليم.

تنبيهٌ:
نظراً لطول الموضوع وتعدد نقاطه، فإني آثرتُ أنْ أورده على حلقاتٍ؛ ليتمكَّن الإخوة من الاطِّلاع عليه والتأمل فيه، والله والموفِّق.

النُّقطةُ الأُوْلَى: أَنَّ الْمُرَادَ بـ(الْمُخَالِف) هُنا ، هُو: مَنْ خَالَفَ الْحَقَّ، مُبْتَدِعَاً كَانَ أمْ سُنِِّيَّاً مُخْطِئاً!!
فَالْمُبْتَدِعُ يُردُّ عَليهِ وَ تُدْحَضُ بدْعتهُ، وَ يُظْهَر الْحَقّ، نَصِيْحَةً لله وَرَسُولهِ وَلِكتَابهِ وَلعَامَّةِ الْمُسْلمين.

أمَّا السُّنِّي الْمُخْطئُ الَّذي ظَهَرَ وذَاعَ خَطَؤهُ، فَنَردُّ غَلَطهُ وَ لَهُ عَلْيَنَا ابْتِداءً- تَفَضُّلاً وَ إحْسَاناً لاَ وُجُوبَاً- حَقّ النَّصيْحَة وَ التَّذكير سِرَّاً قَبْلَ نَشْرِ الرَّدِّ عليه؛ فَإِنْ رَجَعَ وبيَّنَ فَذَلكَ هُو الْمُرَادُ، وإنْ لَمْ يَنْتَصحْ مِنْ غَيْرِ عِنَادٍ وَاسْتِكبارٍ؛ نُشِرَ الرَّدُّ، ولاَ إِشْكَالَ فِي هَذا؛ لأنَّ الْحقَّ أَحب إليْنا وَ أَعزّ، وهُو عَلَى الكفَايَةِ، صِيَانَةً للحقِّ ونُصْحاً لعامَّة الأُمَّةِ، كمَا قرَّره أئمَّة الْحَقِّ.

قَالَ الإمَامُ البربهاريُّ في (شرح السُّنَّة)(رقم 9/69):" واعْلَم أنَّ الْخُرُوجَ مِنَ الطَّريقِ عَلَى وَجْهَين:
أمَّا أَحَدُهُمَا: فَرَجَلٌ قَدْ زَلَّ عَنِ الطَّريقِ، وَهُو لاَ يُريْدُ إلاَّ الْخَير، فَلا يُقْتَدى بِزَلَّتِهِ، فَإنَّه هَالِكٌ.
وآخَر عَاندَ الْحَقَّ وخَالَفَ مَنْ كانَ قَبْلَهُ مِنَ الْمُتَّقِيْنَ؛ فَهُو ضَالٌ مُضِلٌ، شَيْطَانٌ مَريدٌ فِي هَذهِ الأُمَّة، حَقيقٌ علَى مَنْ يَعْرِفْهُ أنْ يُحَذِّرَ النَّاسَ مِنْهُ، وَيُبَيِّنَ للنَّاسِ قِصَّتَهُ، لِئَلاَّ يَقَعَ أَحَدٌ فِي بِدْعَتهِ؛ فَيَهْلَك".
وَ يُنْظَرُ: (مقدّمة صحيح مسلم)(1/29) و(الإبانة الصُّغرى)(ص 348) و(مَجموع الفتاوى)(2/357) وغيرها كثيرٌ.

ومِمَّا سَبَقَ يَتَقرَّر أنْ لاَ تَلاَزُمَ بين الرَّدِّ عَلَى الْمُخَالِفِ وَالتَّبديع، فَقَدْ يكُونُ الْمَرْدُود عَليه مُبْتَدِعَاً وقَدْ لاَ يَكُونُ،بِمَعنى:
أنَّ الرَّدَّ علَى الْمُخَالِفِ لا يَعْني بِالضَّرورة تَبْدِيعَ الْمُخَالِفِ، إلاَّ إنْ عَقَدَ ألويَةَ الوَلاَءِ وَ البراء عَلَى مُخالفَتهِ، فَيُبَدَّع علَى ذَلِكَ؛ لِعَقْدِهِ الوَلاَءَ وَ البَرَاء عَلَى مَا لاَ يَجُوزُ عَقْده عليهِ- ينظر (الْمَجموع)(20/164)-.
أوْ خَالفَ الكتَابَ وَالسُّنَّةَ الْمُسْتَفِيْضَة أوْ مَا أَجْمَعَ عليهِ سَلَفُ الأُمَّةِ خِلاَفَاً لاَ يُعْذرُ فيهِ، فَهَذَا يُعَامَلُ بِمَا يُعَامَلُ بِهِ أهْل البِدَعِ، كمَا قَالَهُ شَيخُ الإسلام – (الْمَجْمُوع)(24/172)- و للمسألةِ تَفْصِيلاتٌ أُخْرَىَ لعلَّ الله يُيَسِّرُ بَيَانَها وتَفْصِيْلهَا.

"ومِنَ الأَمْثِلَةِ عَلَى عَدَمِ التَّلازم بَيْنَ الرَّدِّ والتَّبْديعِ ؛ أنَّ عَدَداً مِنْ عُلمَاءِ أهْلِ السُّنَّة ردَّ بَعْضُهمْ عَلَى بَعْضٍ، ولَمْ يُبدِّعْ أَحَدهم الآخر، بلْ حَفِظَ كلٌّ منْهُما للآخر مكانَتهُ وَاحْتِرامهُ، مَع رَدِّهِ لِغَلطهِ، ولَمْ يَعْقِدْ أحدهمَا علَى قَوله وَلاءً وَ بَراءً، بَلْ مِنْهُم لَمَّا ظَهَرَ لَه غَلطهُ رَجَعَ عَنْ قَولهِ إلَى قَولِ مُخَالِفِهِ، وَهَذا لا يَعِيْبهُ بَلْ يَرْفعهُ؛ لِرُجُوعهِ إلَى الْحَقِّ وبُعْدِهِ عَن الْمُعَانَدةِ وَالْمُكَابَرَةِ!
فَمَثَلاً:
خَالَفَ العَلاَّمة عبدُالعزيز بن بَاز شَيْخهُ العلاَّمة مُحمّد بن إبراهيم آل الشَّيخِ في (مسألة طَلاقِ الثَّلاث بِلَفْظٍ واحد)، وَردَّ أيضَاً علَى العلاَّمة الألباني في مسائل منْها (وضع اليدين على الصَّدر بعد الرَّفع من الرُّكوع) و غيرها منَ المسائل، وَردَّ العلاَّمة الألباني علَى العلاَّمة عبدالعزيز بن باز وغيره في الْمَسْأَلةِ الْمُشَارِ إليْهَا وفِي غَيرها، وردَّ العلاَّمة بديع الدّين السِّندي على العلاَّمة الألباني في المسألة السَّابقة، وردَّ عليه الألباني، وردَّ العلاَّمة حُمود التُّويجري على العلاَّمة ابن عُثيمين، في مَسْأَلَةِ تَتعلَّقُ بِصِفَةِ الْمَعيَّة، و رَجعَ العَلاَّمَةُ ابن عُثيمين عنْ قولهِ إلى قَول التّويجري، وردَّ العلاَّمة التويجري على الألبانِي فِي مَسائل في صفة الصَّلاَة وغَيرهَا، وردَّ عليه العلاَّمة الألباني، وبَيْنَهما وِدٌّ واحترامٌ، بَل إنَّ التويجري استضافَ الألباني في بَيتهِ لَمَّا زَارَ الرِّياض!!
وَهَكَذا فِي رُدُودٍ كثِيرةٍ مَشْهُورةٍ مَنْثُورةٍ بَيْنَ عُلمَاء أهْلِ السُّنَّة، ولَمْ يُبدِّع أَحدهم الآخر، ولَمْ يَمْنَع ذَلكَ من ردِّه ِعلَى مَنْ يَراهُ خَالفَ الصَّوابَ، ونَشْرِ الرَّدِّ عليهِ، وَ لَمْ يَعْقِد أَحدهُما وَلاءً وبراءً على قَولهِ، بلْ إنَّ الإمَام الألباني مَع أنَّه يَرى (بدعيَّة وضع اليدين على الصَّدر بعد الرَّفع منَ الرُّكُوع) يَرَى أنَّه لَو صلَّى خَلْفَ مَنْ يَقُولُ بِسُنِِّيَّة الوَضْعِ بَعد الرَّفع لتَابَعَهُ فِي ذَلكَ لِعُمُوم الْحَديثِ (إنَّمَا جُعِلَ الإمِامُ ليُؤْتَمَّ بهِ..)، فهَذا دَليلٌ علَى عَدَمِ عَقْدهِ الوَلاَء وَالبَراءَ عَلَى قَولهِ!!

الثَّانية: التَّفرقةُ بين العَالِمِ الْمُخْطئ وَ الأَتْبَاع.
وذلكَ: أنَّ بَعضَ مَنْ يُخطئُ مِنْ أَهل العِلمِ والسُّنَّة لاَ يَتَعمَّدُ الْخَطَأ أو الْمُخَالفَة لِلْحقِّ، بلْ يَبْذُلُ وسْعَه للوصولِ إليه، لكنْ لاَ يُوفَّق لإصابَةِ الْحَقِّ.
وتَرَى مَنْ يُعَظِّمه مِنْ أتْباعهِ يَتَّبعهُ فِي خَطَأهِ عِنَادَاً وَ اسْتِكباراً، ويَعْقِدُ وَلاءً وَ بَرَاءً عَلَى خَطَأ شَيْخهِ!! دَلِيْلهُ فِي ذَلك: أنَّ فُلاَناً قَدْ قَالَ بهِ!
فالعالَمُ الْمُخْطئُ يُعْذَرُ ولا يَأْثَمُ، بِخِلاَفِ مَن اتَّبعهُ عِنَاداً واستكباراً فَلا يُعْذَر وَيَأْثَمُ.

وَ فِي أَمْثَالِ هَؤلاَء يُقرِّرُ الإمَامُ ابْنُ رَجَبٍ الْحَنْبليّ كَلاماً فِي غَايَةٍ مِنَ النَّفَاسَة وَالْمَتَانَةِ حَيثُ قَالَ فِي (جَامع العُلُوم والْحِكَمِ)(2/ ص267-268-ط الرِّسالة):" وهَا هُنَا أَمرٌ خفيٌ يَنْبغي التَّفطُّن لَه؛ وَهُو:

أنَّ كَثِيْراً منْ أئمَّة الدِّين قَدْ يَقُولُ قَولاً مَرْجُوحاً، ويكونُ مُجْتَهِداً فيه، مَأْجُوراً عَلى اجْتِهَادهِ، مَوضُوعاً عنْهُ خَطؤهُ فيْه، وَلاَ يَكُونُ الْمُنْتَصِرُ لِمَقَالتِهِ تِلْكَ بِمَنْزِلتهِ فِي هَذه الدَّرجة؛ لأنَّه قَدْ لا يَنْتَصرُ لِهَذا القَول إلاَّ لِكَونِ مَتْبُوعه قَدْ قَالَهُ، بِحَيثُ إنَّه لَو قَالَهُ غَيْرُه مِنْ أئمَّةِ الدِّين لَمَا قَبِلَهُ، ولا انْتَصرَ له، ولا وَالَى مَنْ وَافقه، ولا عَادى منْ خالفه، وَهُو مَع هَذا يَظَنُّ أنَّهُ إنَّما انْتَصَرَ لِلْحقِّ بِمنْزلة مَتْبوعه، وليس كذلكَ، فَإنَّ مَتْبُوعه إنَّمَا كاَنَ قَصدهُ الانْتِصَار لِلْحقِّ، وَإنْ أخْطَأَ فِي اجْتِهَادهِ، وَأمَّا هَذَا التَّابعُ، فَقَدْ شَابَ انْتصارَه لِمَا يظنُّه الْحقّ إرَادَة عُلوِّ مَتْبُوعهِِ، وَ ظُهُورِ كَلمتِهِ، و أَنْ لا يُنْسَبَ إلَى الْخَطَأ، وهَذهِ دَسِيْسةٌ تَقْدَحُ فِي قَصْدِ الانْتِصَارِ لِلْحَقِّ، فَافْهم هَذَا، فَإنَّه فَهْمٌ عَظِيمٌ، واللهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقيمٍ".
وينظر: (مِنْهَاج السُّنَّة النَّبويَّة)(4/543-544) و(مجموع الفتاوى)(11/ 14-16).

قالَ شَيخُ الإسْلاَم ابن تَيمية كمَا في (المجموع)(35/69-70):" وَسَائِرُ أَهْل السُّنَّة والْجَمَاعة وأئمَّة الدِّين لا يَعْتَقدونَ عِصْمَةَ أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَلاَ القَرابَة ولا السَّابقين ولا غَيرهم، بلْ يَجُوزُ عنْدَهم وُقُوع الذُّنُوب منْهم، واللهُ يَغْفرُ لَهم بالتَّوبة، ويرفعُ بِهَا دَرجاتهم، ويغفرُ لَهم بِحسناتٍ ماحيَةٍ، أو بِغير ذَلك من الأسْبابِ..- ثم ذكر بعض الآيات في الباب...إلى أن قال- فأمَّا الصِّديقون والشُّهداء والصَّالُحون فَليسوا بِمَعْصُومينَ، وهَذا في الذُّنُوب الْمُحَقَّقَةِ.
وأمَّا ما اجْتَهدوا فيه: فتارةً يُصيبون، وتارةً يُخْطِئون.
فإذَا اجْتَهَدوا فأصَابوا فَلَهُمْ أَجْرَان، وإذَا اجْتَهدوا و أَخْطَئُوا فَلَهُم أجرٌ على اجْتِهَادهم، وخَطَؤُهم مَغْفُورٌ لَهم.
وأَهْلُ الضَّلالَ يَجْعلونَ الْخَطَأ وَالإثْمَ مُتَلازِمَيْنِ، فَتارةً يَغْلُونَ فيهمْ؛ فَيَقولونَ:
إنهم معصومون.
وتارةً يَجْفُون عَنْهم؛ فَيقولونَ:
إنَّهم بَاغُون بالْخَطَأ.
وأهلُ العِلْمِ وَالإيْمَانِ: لاَ يعْصمونَ، وَلاَ يُؤثِّمونَ ".

وقالَ الإمامُ مُحمَّدُ الأمين الشَّنيقطيُّ في (أضواء البيان)(538 -7/533،537):" اعْلَمْ أنَّ الْمُقَلِّدينَ اغْتَرُّوا بِقَضيَّتين ظنُّوهُما صَادِقَتَيْن، وَهُما بَعِيْدَتَانِ عَن الصِّدقِ..."، ثُمَّ ذَكرَ الأُوْلَى- وسَتَردُ في مَحلِّها بِحولِ الله، ثُمَّ قَالَ-:" وأمَّا القضيَّةُ الثَّانية؛ فَهِيَ: ظَنُّ الْمُقَلّدين أنَّ لَهُم مِثْل مَا لِلإمَامِ مِنَ العُذرِ في الْخَطأِ.

وإيْضَاحه : أنَّهم يَظنُّون أنَّ الإمامَ لَو أَخْطَأَ فِي بَعْضِ الأَحْكَام، وقلَّدوهُ فِي ذَلِكَ الْخَطَأ؛ يَكُونُ لَهُم مِنَ العُذْر فِي الْخَطَأ وَالأَجْر مِثْل مَا لذلك الإمَام الَّذي قلَّدوهُ؛ لأنَّهُم مُتَّبعونَ لَه، فَيَجْري عليهمْ مَا جَرَى عليهِ.

وهذَا ظَنٌّ كَاذبٌ بَاطِلٌ بِلاَ شَكٍّ ؛ لأنَّ الإمَامَ الَّذي قَلَّدُوهُ بَذَل جهْدهُ في تَعلُّم كِتَاب الله وسُنَّة رَسولهِ وأَقْوَال الصَّحَابة وفتَاويهم، فَقَدْ شَمَّر، ومَا قَصَّرَ فِيْمَا يَلْزَمُ مِنْ تَعلُّم الوَحي والعَمَل بهِ، وَطَاعة الله علَى ضَوء الوَحْي الْمُنْزَلِ، ومَنْ كَان هَذا شأنُهُ؛ فَهُو جَديرٌ بالعُذْرِ فِي خَطئهِ وَالأجر عَلَى اجْتِهَادهِ.

وأمَّا مُقَلِّدوهُ؛ فَقَدْ تَرَكُوا النَّظَر فِي كتَاب الله وسُنَّة رَسولهِ، وَأَعْرَضُوا عَنْ تَعَلُّمها إعْرَاضاً كليَّاً، معَ يُسْرهِ وَسُهُولتهِ، وَنَزَّلوا أقوالَ الرِّجَال الَّذين يُخْطِئونَ وَيُصِيْبُونَ مَنْزَلةَ الوَحي الْمُنْزَلِ مِنَ اللهِ، فَأَيْنَ هَؤلاءِ مِنَ الأئمَّةِ الَّذينَ قَلَّدُوهُم؟! .
يُتبعُ بحول الله تعالى.

وكتبه
عبدالله بن عبدالرحيم البخاري
8/ صفر/ 1430ه

أبو عبد الرحمان بحوص
08-02-2010, 10:14 AM
بسم الله الرحمن الرَّحيم

الحمدُ لله ربِّ العالمين والصَّلاة والسَّلام على نبيِّنا محمَّدٍ و آله وصحبه أجمعين، وبعدُ:
فإتماماً لما سبقَ في (الحلقة الثَّانية) من نقاطٍ تتعلَّق بموضوعنا؛ فهذه هي النُّقطةُ:

الثَّالِثَةُ: وَاجبنا تجاهَ غَلَطِ وَخَطأ العَالِم السُّني.
إنَّ مِنَ الثَّوابتِ المتقرِّرة لدَى أهل السُّنة والجماعة: وُجُوبُ احْترام وتَقْدير العُلَماء، كمَا أبَنْتُهُ مُفَصَّلاً في ردِّي علَى أبِي الْحَسن المأربي في كتابِي (الفَتْح الرَّبَّانِي) (الثَّابت الأوَّل).

و إنَّ مِنَ المتقرِّر أيضاً أنَّ العصمةَ عنْهُم مَنْفيَّة، والْخَطأَ منْهُم واردٌ؛ لأنَّهم بشرٌ يصيبون ويُخْطِئونَ، وَأنَّ السُّنة قَد تَخْفَى علَى بعض أفَاضِلِ العُلماء، هَذَا الَّذي قرَّره جمعٌ من أئمَّة الدِّين، فَمِنْ ذلك:

قولُ الإمام الشَّافعيُّ:" مَا مِنْ أحدٍ إلاَّ وتَذْهب عليه سُنَّة لرسُول الله صلَّى الله عليه وسلَّم و تَعْزُبُ عنه" (إعلام الموقعين)(2/267).

وقالَ الإمامُ ابنُ عبدالبر:" وقدْ أجَازَ عَلى كثيرٍ منْهُم جَهْل كَثيرٍ مِنَ السُّنن الوَاردة على أَلْسِنَةِ خَاصَّة العُلماء.
ولاَ أعْلَمُ أحداً منَ الصَّحابة إلاَّ وقدْ شَذَّ عنه بَين علم الخاصَّة واردة بنقلِ الآحاد أشياء حفظها غيرهُ، وذلك علَى مَنْ بَعْدَهُم أَجْوَزُ، والإحاطةُ مُمْتَنِعةٌ علَى كلِّ أحدٍ" (الاستذكار)(1/58).

وقالَ الإمامُ ابن المنذرِ:" لأنَّ أَحَداً لا يُحِيْطُ بِجَميعِ السُّنن" (الأوسط)(1/469).

وقالَ العلاَّمة الحبر محمد الأمين الشنقيطيُّ في (أضواء البيان)(7/533-534):".. والأئمَّةُ كلُّهم مُعْتَرِفُونَ بأنَّهم مَا أَحَاطُوا بِجَميعِ نُصُوصِ الوَحْي... وكَثْرَةُ عِلْمِ العَالِمِ لاَ تَسْتَلزمُ اطِّلاعه عَلَى جَمِيعِ النُّصوص....فَهَؤلاءِ الْخُلَفَاء الرَّاشِدونَ وَهُمْ هُمْ، خَفِيَ عَليهمْ كَثيرٌ مِنْ قَضَايا رَسَول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وَأَحَادِيْثِهِ، مَعَ مُلازَمَتِهِم لَهُ، وَشِدَّةِ حِرْصِهمْ عَلَى الأَخْذِ مِنْهُ، فَتَعَلَّموه مِمَّن هُو دُونَهم فِي الفَضْلِ وَالعِلْمِ.
فما ظنُّكَ بِغَيرهم منَ الأئمَّة الَّذين نَشَأَوا وَ تَعَلَّموا بعدَ تَفَرُّقِ الصَّحَابَةِ فِي أَقْطَارِ الدُّنيا؟.."، وغيرهم كثير.

وإذَا كانَ الأمْرُ كَذَلكَ فَالوَاجِبُ في مثلْ هَذا الْمَقَامِ:
اتِّباع السُّنة وَالدَّليل الَّذي خَفِيَ عَلى ذَلك العالِم السُّني، أو الَّذي خَالَفه، لاَ التَّعصب لقولهِ وردِّ الدَّليل لأجله!! معَ بَقَاء الاحْتِرَام وَالتَّقْديرِ لَهُ.

1/ قَالَ الإمامُ الشَّافعيُّ رحمه الله مُجيباً عن مسألةٍ :" جَائزٌ، وأحبُّه ولا أكرهه؛ لثُبوتِ السُّنة فيه عنْ النَّبي صلَّى الله عليه وسلم والأخبار عَنْ غَيرِ وَاحدٍ، ومِنَ الصَّحابة....- إلى أنْ قال- وسُنَّةُ رسول الله صلَّى الله عليه وسلم أَحقُّ أنْ تُتَّبع.
- ثُمَّ قال- وهكذا يَنبغي أنْ يَكُونَ الصَّالِحُونَ وَأهل العلم، فأمَّا مَا تذهبونَ إليه مِنْ تَرْكِ السُّنَّة وغيرهاِ، وَ تَرك ذَلكَ لِغَيرِ شَيءٍ بَلْ لِرَأي أنْفُسِكمْ، فَالعِلْمُ إذاً إليكم تَأتونَ منْهُ مَا شِئْتُم وَتَدَعُونَ مَا شِئْتُم؟" نَقله الإمام ابن القيم في (إعلام الموقعين)(2/269).

ونقل عنْهُ أيضاً قوله (2/270):" منْ تبِعَ سُنَّةَ رَسُولِ الله صلَّى الله وسلَّم وَافَقْتُهُ، ومَنْ خَلط فَتركها خَالفتُه حتَّى صَاحبي.
الَّذي لاَ أُفَارِقُ: الْمُلاَزِم الثَّابت مَعَ رَسُولِ الله صلَّى الله عليه وسلم وإنْ بَعُدَ.
وَ الَّذي أُفارقُ: مَنْ لَمْ يَقُلْ بِحَديث رسول الله صلى الله وسلم وَ إنْ قَرُبَ".

2/ قَالَ الإمامُ ابنُ القيم في (إعلام الموقعين)(3/294-299):" فصْلٌ: ولا بدَّ من أمرين:
أحدهما أعظمُ من الآخر؛ وهو النَّصيحة لله ولرسولهِ و كتابهِ ودينهِ، وتنْزيههِ عَنِ الأقْوَال البَاطِلةِ الْمُنَاقِضِة لِمَا بَعثَ الله به رَسُولهُ مِنَ الْهُدى وَ البَيِّنات...

والثَّانِي: مَعرفةُ فَضْل أئمَّة الإسلام ومقَاديرهم وحُقُوقهم وَمَراتِبهمْ، وأنَّ فَضْلَهُم وَعِلْمَهُم وَنُصْحَهُمْ لله وَرسولهِ لاَ يُوجِبُ قَبُولَ كُل مَا قَالُوه.

وما وقع في فَتَاويهم منَ الْمَسائلِ الَّتي خَفِي عَليهم فيها مَا جَاء به الرَّسُولُ، فَقَالُوا بِمَبلغِ عِلْمهمْ، وَالْحَقّ فِي خِلاَفهَا، لا يُوجبُ اطِّرَاح أَقْوالِهم جُمْلةً، وتَنَقُّصِهم وَالوَقيعةَ فيْهم؛ فَهَذانَ طَرَفان جَائِرَان عَنِ القَصْدِ، وَقَصْدُ السَّبِيْلِ بَيْنَهُما: فَلا نُؤثِّمْ وَ لا نَعْصِم.....
وَمَنْ لَهُ عِلْمٌ بالشَّرع والوَاقعِ يَعْلَمُ قَطْعاً:
أنَّ الرَّجُل الْجَليلَ الَّذي لَهُ فِي الإسْلاَمِ قَدمٌ صَالِحٌ، وآثارٌ حَسَنةٌ، وهُو منَ الإسلامِ وَأهلهِ بِمَكانٍ قَدْ تَكُونُ مِنْهُ الْهَفْوةُ وَالزَّلة هُو فِيْهَا مَعْذورٌ بَلْ وَمَأْجورٌ لاجتهادهِ، فَلاَ يَجوزُ أنْ يُتْبَعَ فِيْهَا، وَلاَ يَجوزُ أنْ تُهْدَرَ مَكانَتهُ وَإمَامتُهُ وَمَنْزِلتُهُ مِنْ قُلُوبِ الْمُسْلِمينَ....
- ثم ذكر مناظرة جميلة للإمام ابن المبارك مع بعض من أجاز النبيذ، ثم قال-
قالَ شيخ الإسلام: وهذا الَّذي ذكرهُ ابنُ المبارك مُتَّفقٌ عليهِ بَيْنَ العُلماءِ، فإنَّه مَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ أعيانِ الأئمَّة مِنَ السَّابِقينَ الأَوَّلينَ وَمَنْ بَعْدَهم إلاَّ وَلَهُ أَقوالٌ وأفعالٌ خَفِيَ عَليهم فيها السُّنة....
وهذا بَابٌ واسعٌ لا يُحصى، مع أنَّ ذَلكَ لاَ يَغضّ مِنْ أَقْدَارهمْ، ولا يُسوغ اتَّباعهم فيْها، قال تعالى (فإنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيءٍ فَردُّوهُ إلَى اللهِ وَالرَّسُولِ).
قَال مُجاهدٌ والحكم بن عتيبة ومالك وغيرهم: ليس أحَدٌ مِنْ خَلق الله إلاَّ يُؤخذ مِنْ قَوله وَيُتْرَك إلاَّ النَّبي صلى الله عليه وسلَّم.

قال سُلَيْمَان التَّيمي: إنْ أَخَذْتَ بِرُخْصَةِ كُلِّ عَالِمٍ اجْتَمعَ فيْكَ الشَّرُّ كُلُّه.
قَالَ ابن عبدالبر: هَذَا إجْمَاعٌ لاَ أَعْلَم فيهِ خِلاَفاً....

فَإذَا كنَّا قَدْ حُذِّرنا مِنْ زَلَّةِ العَالِمِ، وَقيلَ لنَا: إنَّهَا مِنْ أَخْوَف مَا يُخَاف عَلينا، وأُمِرْنَا مَعَ ذَلكَ أن لاَ نَرْجعَ عنْهُ، فَالوَاجبُ علَى مَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلإسْلاَمِ إذَا بَلغتهُ مَقَالة ضَعيفة عَن بَعض الأئمَّة: أنْ لا يَحكيها لمن يُقَلِّدها، بَل يَسْكُت عَن ذِكرها إنْ تَيَقَّن صِحَّتها، وإلاَّ تَوقَّف في قَبولِها، فَكثيراً ما يُحْكى عن الأئمَّة مَالاَ حَقيْقَةَ لَه، وَكثيرٌ مِنَ الْمَسائلِ يُخَرِّجُها بَعض الأَتْبَاعِ عَلَى قَاعِدَةِ مَتْبُوعهِ مَعَ أنَّ ذَلك الإمامَ لَو رَأى أنَّها تُفْضِي إلَى ذَلك لَمَا الْتَزَمَها.

وَ أَيضاً فَلازم الْمَذْهَب لَيسَ بِمَذْهَبٍ، وَإنْ كَانَ لاَزِمُ النَّصِّ حَقَّاً؛ لأنَّ الشَّارِعَ لاَ يَجُوزُ عَليهِ التَّنَاقض، فَلاَزِمُ قَولهِ حَقٌّ...

وقَد اتَّفقَ السَّلف على أنَّهَا بِدَعةٌ مُحدثةٌ- أي الحيل-؛ فَلا يَجُوز تَقْلِيدُ مَنْ يُفتي بها، وَيَجبُ نَقْضُ حُكْمهِ، وَلاَ يَجوزُ الدّلالَة لِلْمُقَلِّدِ عَلَى مَنْ يُفْتِي بِهَا، وَقَد نَصَّ الإمام أحْمَد عَلى ذَلكَ كُلِّه...".

3/ عَقَدَ العلامة الشَّاطبي في (الموافقات)(5/132-140) فَصْلاً حوى نَحواً مِمَّا قاله الإمام ابن القيم هُنا مِنَ التحذير مِنْ زَلَّة العَالِمِ وَعَدمِ مُتَابَعَتهِ فِيْها، فَقالَ بعد أنْ نقل عدداً من الآثار في الباب:
" هَذا كُلُّه وما أشبهه دليلٌ على طَلَبِ الْحَذرِ مِنْ زَلَّةِ العَالِمِ، وَأكثر مَا تكونُ عنْدَ الغَفْلَةِ عَن اعْتِبَارِ مَقَاصد الشَّرْع فِي ذَلك الْمَعْنى الَّذي اجتهدَ فيهِ، و الوقُوف دُونَ أَقْصَى الْمُبَالغةِ فِي البَحْثِ عَن النُّصوصِ فيْها، وهُو وإنْ كَانَ عَلَى غَيْر قَصْدٍ وَ لاَ تَعَمُّدٍ وَصَاحبهُ مَعْذُورٌ وَمَأْجُورٌ، لكنْ مِمَّا يَنْبَنِي عَليهِ فِي الاتِّباعِ لِقَولهِ؛ فِيْهِ خَطرٌ عَظِيْمٌ...
وهكَذا الْحُكُمُ مُسْتَمر فِي زَلَّتهِ فِي الفُتْيَا مِنْ بَاب أَوْلَى؛ فإنَّه رُبَّمَا خَفي عَلى العَالِم بَعض السُّنة أو بعض الْمَقَاصد العامَّة فِي خُصُوص مَسألته، فَيُفْضِي ذَلِكَ إلَى أنْ يَصيرَ قَوله شَرْعَاً يتَقلَّد، وقولاً يعتبرُ في مَسائل الْخِلاَف، فَربَّما رجَعَ عَنْهُ وَتَبيَّنَ لَه الْحقّ، فَيَفُوتهُ تَدَارك مَا سَار فِي البِلاَدِ عَنْهُ، وَيَضلّ عنْه تَلافيهِ، فَمِنْ هُنا قَالوا: زَلَّةُ العَالِمِ مَضْرُوبٌ بِهَا الطَّبْل.
إذا ثبتَ هَذا؛ فَلا بُدَّ مِنَ النَّظرِ فِي أُمُور تَنْبَنِي عَلَى هَذا الأَصْلِ:

منْها:أنَّ زلَّةَ العَالِمِ لاَ يَصِحُّ اعْتِمَادُهُا مِنْ جِهَةٍ وَلاَ الأَخْذُ بِها تَقْليداً لَه؛ وذَلكَ لأنَّهَا مَوضُوعة علَى الْمُخَالفَةِ للشَّرْع، ولذلك عُدَّت زلَّة، وإلاَّ فَلَو كانَتْ مُعْتداً بِهَا لَمْ يُجْعَل لَها هَذه الرُّتْبة، ولاَ نُسبَ إلَى صَاحبهَا الزَّلل فيْها، كمَا أنَّهُ لاَ يَنْبَغي أنْ يُنْسَبَ صَاحبهَا إلَى التَّقْصيرِ، وَلاَ أَنْ يُشَنَّع عَليهِ بِها، وَلاَ يُنْتَقص مِنْ أَجْلهَا، أوْ يُعْتقد فيْه الإقْدَام عَلَى الْمُخَالفة بَحْتاً، فَإنَّ هَذا كُلّه خِلاف مَا تَقْتضي رُتْبتُه فِي الدِّين، وقدْ تَقدَّم مِنْ كَلامِ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ وَغيره ما يُرْشِدُ إلَى هَذا الْمَعْنى.....

ومنْها: أنَّه لاَ يَصحُّ اعْتِمَادُها خِلاَفاً فِي الْمَسائلِ الشَّرعيَّة؛ لأنَّها لَمْ تَصْدُر فِي الْحَقيقةِ عَنِ اجْتِهَادٍ، ولاَ هِيَ مِنْ مَسائلِ الاجْتِهَادِ، وَإنْ حَصلَ مِنْ صَاحبهَا اجْتِهَاد، فَهو لَم يُصادف فيها مَحلاً، فصَارت في نسبتها إلى الشَّرع كأقوالِ غَير الْمُجتهدِ، وإنَّما يُعدُّ في الخلافِ الأَقْوال الصَّادرة عن أدلَّةٍ مُعتبرةٍ في الشَّريعة، كانت مِمَّا يَقْوى أو يَضعف.
وأمَّا إذا صَدرت عَن مُجرَّد خَفَاءِ الدَّليل أو عَدمِ مُصَادفتهِ فَلاَ؛ فلذلك قيلَ: إنَّه لا يصحّ أنْ يُعْتَدَّ بِها فِي الْخِلافِ، كما لَمْ يَعتدّ السَّلف الصَّالح بالخلافِ فِي مَسألةِ رِبَا الفَضْلِ... وَأشْبَاههَا مِنَ الْمَسائلِ الَّتي خَفِيت فيْه الأدلَّة عَلَى مَنْ خَالفَ فِيْهَا..".

4/ قال العلاَّمة الحبر محمد الأمين الشنقيطي في (أضواء البيان)(7/ 533-534) : " اعلمْ أنَّ المقلدِّين اغْتَرُّوا بِقَضيَّتين ظنُّوهما صَادِقَتين، وهُما بَعِيْدَتَان مِنَ الصِّدق...

أمَّا الأُولى منْهُما:
فَهِي ظنُّهم أنَّ الإمامَ الَّذي قَلَّدوهُ لاَ بُدَّ أنْ يَكُونَ قَد اطَّلعَ عَلى جَميع مَعانِي كِتَابَ الله، ولَمْ يَفتهُ منْها شَيءٌ، وَعلَى جَميعِ سُنَّة رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وَلَمْ يَفتهُ منْها شيءٌ.
ولذلكَ فَإنَّ كُلَّ آية وكلَّ حَديثٍ قدْ خَالفَا قَوله؛ فَلا شكَّ عنْدهم أنَّ ذَلك الإمَام اطَّلعَ عَلى تلكَ الآيَة وعَلِمَ مَعْنَاها، وعَلَى ذَلكَ الْحَديث وعَلِمَ مَعْنَاهُ، وأنَّهُ مَا تَرَكَ العَمَلَ بِهما إلاَّ لأنَّهُ اطَّلعَ عَلَى مَا هُو أَقْوَى منْهُما وَ أَرْجَح....وهَذا الظَّنُّ كَذِبٌ بَاطلٌ بِلاَ شَكٍّ.
والأئمَّة مُعْتَرِفُونَ بأنَّهمْ مَا أَحَاطُوا بِجَميعِ نُصُوصِ الوَحْي...- ثُمَّ ذَكرَ أمثلةً مِنْ خَفَاء بَعْضِ السُّنن عَلَى بَعْضِ الصَّحَابَة كَالْخُلَفاء الرَّاشدين، ثُمَّ قَال-
فَهؤلاء الْخُلَفاء الرَّاشِدُون وَهُمْ هُمْ، خَفِيَ عَليهمْ كَثِيْرٌ مِنْ قَضَايا رَسُول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وَ أَحَاديثِهِ، مَعَ مُلازَمتِهِمْ لَهُ، وَشِدَّةِ حِرْصِهمْ عَلَى الأَخْذِ مِنْهُ، فَتَعَلَّموهُ مِمَّنْ هُو دُونَهم فِي الفَضْلِ وَ العِلْمِ.
فمَا ظنُّك بغيرهمْ مِنَ الأئمَّةِ الَّذينَ نَشَأُوا وَ تَعَلَّمُوا بعدَ تَفَرُّقِ الصَّحَابَةِ فِي أقْطَارِ الدُّنيا؟...

وَالْحَاصلُ أنَّ ظنّ إحْاطَةِ الإمَامِ بِجَميعِ نُصُوصِ الشَّرعِ وَمَعَانيْها ظَنٌ لا يُغْني منَ الْحَقِّ شيئاً، ولَيْسَ بِصَحيحٍ قَطْعاً؛ لأنَّه لا شكَّ أنَّهُ يَفوتُهُ بَعض الأحَادِيث، فَلَمْ يَطَّلع عَليها، ويرويه بَعضُ العُدُولِ عَن الصَّحَابَة فَيَثْبُت عنْدَ غَيره.
وهو مَعْذُورٌ في تَرْكِ العَمَلِ بِه، بِعَدمِ اطِّلاعهِ عَليهِ مَعَ أنَّهُ بَذَل الْمَجْهُودَ فِي البَحْثِ، وَلِذَا كانَ لَه أَجْر الاجتِهَاد وَالعُذر فِي الْخَطَأ....
فَاللازِمُ هُو مَا قَالهُ الأئمَّةُ أنَفْسُهُم رَحمهم الله مِنْ أنَّهُم قَدْ يُخْطِئُونَ، ونَهوا عن اتِّباعهمْ فِي كُلِّ شيءٍ يُخَالِفُ نَصَّاً مِنْ كتَابٍ أو سُنَّةٍ.
فالْمُتَّبِعُ لَهُم حَقِيْقةً؛ هُو مَنْ لاَ يُقَدِّمُ عَلَى كِتَاب اللهِ وَ سُنَّة رَسولهِ شَيئاً، أمَّا الَّذي يُقدِّم أقَوالَ الرِّجَالِ عَلَى الكتَابِ وَصَحيحِ السُّنَّةِ، فَهُو مُخَالِفٌ لَهُم لاَ مُتَّبِعٌ لَهُم، وَدَعْواهُ اتّباعهمْ كَذِبٌ مَحْضٌ".
وقاَلَ أيضاً (7/555-556):" اعْلَمْ أنَّ مَوْقفنَا مِنَ الأئمَّة رَحمهم الله مِنَ الأَرْبَعَةِ وَغيرِهم، هُو مَوقْفُ سَائر الْمُسْلمينَ الْمُنْصِفين مِنْهُمْ، وهُو:
مُوالاَتُهُمْ، وَمَحبَّتُهُم، وَتَعْظِيْمُهُم، وَإِجْلالُهُمْ، وَالثَّنَاءُ عَليْهم، بِمَا عَليهِ مِنَ العِلْمِ وَالتَّقْوىَ، وَ اتِّبَاعُهُمْ فِي العَمَلِ بِالكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَتَقْديهمَا عَلَى رَأْيهمْ، وَتَعلُّمُ أَقْوالِهِمْ لِلاسْتِعَانة بِها عَلَى الْحقِّ، وَ تَرك مَا خَالَفَ الكتَابَ وَالسُّنَّةَ منْهَا.

وأمَّا الْمَسائلُ الَّتي لاَ نَصَّ فيْهَا فَالصَّوابُ؛ النَّظَرُ فِي اجْتِهَادهمْ فِيْهَا، وَقَدْ يَكُونُ اتِّبَاعِ اجْتِهَادهمْ أَصْوَبُ مِن اجْتِهَادنَا لأَنْفُسنَا؛ لأَنَّهُم أَكْثر عِلْماً وتَقْوىً مِنَّا، ولكنْ عَلينا أنْ نَنْظُرَ ونَحْتَاطَ لأَنْفُسِنَا فِي أَقْرَبِ الأَقْوالِ إلَى رِضَى الله، وَأَحْوطِهِا وَأَبْعَدِهَا مِنَ الاشْتِبَاهِ، كمَا قَالَ صلَّى الله عليه وسلَّم (دَعْ مَا يَرِيْبُكَ إلَى مَا لاَ يَريبكَ)...

وحقيقةُ القَولِ الفَصْلِ فِي الأئمَّة رحمهم الله:
أنَّهُم مِنْ خِيَارِ عُلَمَاء الْمُسْلمين، وأنَّهُم لَيْسُوا بِمَعْصُومينَ مِنَ الْخَطَأ، فَكُلُّ مَا أَصَابُوا فيهِ فَلَهُمْ أَجْرُ الاجْتِهَادِ وَأَجْرُ الإِصَابَةِ، وَ مَا أَخْطَأوا فيهِ فَهُمْ مَأْجُورونَ فيهِ بِاجْتِهَادِهم مَعْذُورونَ فِي خَطَئِهمْ، فَهُم مَأْجُورونَ عَلَى كُلِّ حَالٍ، لا يَلْحَقُهُم ذَمٌ وَلاَ عَيْبٌ ولا نَقْصٌ فِي ذَلكَ، ولكنْ كتَاب اللهِ وَ سُنَّة نَبيِّه صلَّى الله عليه وسلَّم حَاكمَان عَليهمْ وَعَلَى أَقْوَالِهم كمَا لاَ يَخْفَى:
فَلاَ تَغْل فِي شَيءٍ مِنَ الأَمْرِ وَاقْتَصِد....كِلاَ طَرَفِي قَصْدِ الأُمُور ذَمِيْمُ
فَلا تَكُ مِمَّن يَذُمُّهُمْ وَ يَنْتَقِصُهُم، وَلاَ مِمَّنْ يَعْتَقِدُ أَقْوالهم مُغْنِية عَن كتَابِ الله وَسُنَّةِ رَسُولهِ أوْ مُقَدَّمة عَليهمَا".

ومنْ أمثلَة هَذا الْمَقَام:

1/ قالَ الحافظُ ابنُ المنذر في (الأوسط)(1/469) بعدَ أنْ حكَى الْخِلاَفَ فِي مَسألةِ (الْمَسْحِ عَلَى العِمَامَةِ فِي الوضُوء) قالَ:" وليسَ فِي إنْكَارِ مَنْ أَنْكَرَ الْمَسْحَ عَلَى العِمَامَةِ حُجَّة؛ لأنَّ أحَداً لا يُحيطُ بِجَميعِ السُّنَن، ولعَلَّ الّذي أنكرَ ذَلكَ لَو عَلِمَ بِالسُّنَّةِ لَرَجَعَ إليْهَا، بَلْ غَيرُ جَائزٍ أنْ يظنَّ مُسْلِمٌ لَيس مِنْ أَهْلِ العِلمِ غَيرَ ذَلكَ، فَكيفَ مَنْ كَانَ مِنْ أهلِ العِلْمِ؟ وَ لاَ يَجوزُ أنْ يُظنَّ بِالقَومِ غَير ذَلكَ.
وكمَا لَمْ يَضر إنْكَار مَنْ أنكرَ الْمَسحَ عَلى الْخُفَّين، ولَمْ يُوهن تَخَلُّف مَنْ تَخلَّفَ عَنِ القَولِ بِذَلك؛ إذْ أَذِنَ النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم في المسحِ عَلَى الْخُفَّينِ، كَذَلك لاَ يُوهنُ تَخلُّفُ مَنْ تَخلَّفَ عَن القَولِ بِإِبَاحةِ الْمَسحِ عَلَى العِمَامَةِ".
وقال في موضع أيضاً (1/434):"...وإذا ثبتَ الشَّيءُ بِالسُّنَّةِ وَجَبَ الأَخْذُ بهِ، وَلَمْ يَكُنْ لأَحَدٍ عُذَراً في تَركهِ وَلاَ التَّخلّف عنْهُ".

2/ قال الحافظُ ابنُ عبدالبر في (الاستذكار)(1/199) متكلَّماً عن فقهِ حَديثِ (الطُّهُورُ مَاؤُه، الْحِلُّ مَيتته):" وقَد جَاء عن عبدالله بنِ عُمر، وَ عبدالله بنِ عَمرو بن العاص: كَراهية الوضُوء بماءِ البَحْر.
وليسَ فِي أَحَدٍ حجَّةٌ معَ خِلافِ السُّنَّة".
وقال في (التمهيد)(16/221) بعد حكايته الإجماع عَلى طُهُوريَّة مَاء البَحْرِ وَجَواز الوضوء به :" إلاَّ ما رُوي عنْ عَبدالله بنِ عُمر بن الخطَّاب و عبدالله بن عمرو بن العاص، فإنَّه روي عنْهُما أنَّهُما كَرِهَا الوضُوء بِمَاءِ البَحْرِ، ولَمْ يُتَابعهما أَحدٌ منْ فُقَهاء الأمْصَارِ عَلَى ذلكَ، و لا عَرَّج عليهِ وَ لاَ التَفَتَ إليه".

3/ قالَ الحافظُ النَّووي في (شرح صحيح مسلم)(8/19) عنْد شَرحهِ لِحَديثِ النَّهي عَنْ تَخْصيص يوم الْجُمعة بِصيامٍ وَعَنْ ليْلتَها بقيَامٍ، الَّذي أخرجه مسلمٌ في (صحيحه)، قَالَ:" أمَّا قَولُ مَالكٍ فِي (الْمُوطَّأ): لَم أسْمَع أحداً مِنْ أهْلِ العِلمِ والفِقهِ وَمَنْ بِه يُقْتَدى نَهى عنْ صِيامِ يَوم الْجُمعةِ، وَصِيَامُهُ حَسَنٌ، وَقَد رَأيتُ بَعْض أهْلِ العِلْمِ يَصُومُه، وَ أُرَاهُ كَانَ يَتَحَرَّاهُ.
- قَال النَّووي مُتعقِّباً- فهَذا الَّذي قَالَهُ هُو الَّذي رَآهُ، وَقَدْ رَأى غَيرهُ خِلاَف مَا رَأى هُو، وَالسُّنَّةُ مُقَدَّمةٌ عَلَى مَا رَآهُ هُو وَغَيرُهُ.
وقَدْ ثَبتَ النَّهيُ عَنْ صَومِ يَوم الْجُمُعةِ؛ فَيتعيَّن القَولُ بهِ، وَمَالِكٌ مَعْذورٌ؛ فإنَّه لَمْ يَبْلُغْه، قَالَ الدَّاوديُّ مِنْ أصْحَابِ مَالكٍ: لَمْ يَبْلُغ مَالِكاً هَذا الْحَديث، وَلَو بَلَغهُ لَمْ يُخَالفهُ".

4/ مَسألةُ (وجُوب إحدادِ المرأة عَلَى زَوجها المتوفى)، جاءت نُصوصٌ في السُّنَّة في الصَّحيحين وغيرهما تَدلُّ على ذَلكَ، و نَقل بَعضُ أهل العِلْمِ الإجْمَاعَ عَلَى وُجُوبهِ، ونَقَض بَعْضُهم الإجْمَاعَ بِأنَّهُ قَد رُويَ عَنِ الْحَسن البَصري بأنَّه لا يَرَى وجُوبَهُ، وَتعَّقبه بعضُ أهل العلمَ فقالَ:
ابنُ عبدالبرِّ وَابنُ قُدامةَ و عياض وَ القُرطبي و النَّووي و العيني: بأنَّهُ قَولٌ شَاذٌّ، زادَ ابنُ قُدامة:"وخَالَفَ السُّنَّة"، وَ زَادَ النَّوويُّ :"غريبٌ".
(الاستذكار) (5/239) و(المغني)(11/284) و(إكمال المعلم) (5/68) و(المفهم)(5/284) و (شرح صحيح مسلم) (10/112) و (عمدة القاري)(3/283).
وينظر (عمدة القاري)(8/67) و(الإعلام بفوائد عمدة الأحكام)(8/395).

قَال الحافظُ ابنُ حَجَرٍ في (الفتح)(9/486) بعدَ حِكَاية قَول الحسنِ:" ونَقلَ الْخَلاَّلُ بِسَنَدهِ عَنْ أَحْمَد عَن هُشيمٍ عَنْ دَاودَ عَنِ الشَّعبي أنَّه كانَ لاَ يَعْرِفُ الإحْدَادَ.
قَالَ أَحمدُ: مَـا كَانَ بِالعِرَاقِ أَشدّ تَبَحُّراً مِنْ هَذَين- يعني الحسن والشعبي- قالَ: وَخَفِيَ ذَلِكَ عَلْيهمَا. أهـ.
- قالَ الحافظ- ومُخَالفتُهُما لاَ تَقْدحُ في الاحْتِجَاجِ، وَ إنْ كانَ فيْهَا رَدٌّ عَلى من ادَّعى الإجْمَاعَ، وَ فِي أثَرِ الشَّعبي تعقُّبٌ علىَ ابنِ المنذرِ حَيثُ نَفى الْخَلاَفَ فِي المسألةِ إلاَّ عَن الْحَسنِ".

وفق الله الجميع لما يحبه ويرضاه، وصلَّى الله على نبيِّنا محمدٍ وآله وصحبه وسلَّم.

يتبع بحول الله تعالى


وكتب
عبدالله بن عبدالرحيم البخاري
15/ صفر/ 1430هـ

أبو عبد الرحمان بحوص
08-02-2010, 10:17 AM
بسم الله الرَّحمن الرَّحيم
الحمدُ لله ربِّ العالمين والصَّلاة والسَّلام على نبيِّنا محمَّدٍ وآله وصحبه أجمعين، وبعدُ:
فهذه هي النُّقطةُ:
الرَّابعة: ذكرُ بَعض الأُمُورِ الَّتي يَنْبِغي تَوفّرهَا فِيْمنْ يَتَولَّى الرَّدَّ عَلَى الْمُخَالِفِ؟
إنَّ بيانَ الْحَقِّ لِلْخَلْقِ وَالرَّدَّ عَلَى البَاطِلِ وَأهلهِ مُهمَّةٌ عَظيمةٌ، قَامَ بها أنْبياءُ الله وَ رسُله، ومنْهُمْ خَاتِمُهُمْ عَليهم الصَّلاةُ والسَّلام، وَ وَجَبَ على أهْلِ العِلْمِ بَعْدَهُ مِمَّن وَرثوا عِلْمَ النُّبوة أنْ يَقُوموا بِهَذَا الوَاجبِ، وَ مَنْ تَمَكَّن مِنْ طُلاَّبِ العِلْمِ الْمُؤَهَّلين مِمّن اسْتَجمعَ الآلية والأهليَّة، وَ أقلُّ الأحْوَال أنْ يكونَ كذلكَ: فِي الْمَسْألةِ الَّتي يَتكلَّم فيهَا لأنَّه؛ قَدْ يُجَادِلُ العَاميُّ وَ المبتدئُ الْمُخَالِفَ، فَيْعَجَزُ عَنْ إقَامَةِ البُرْهَان عَلى صِحَّة قَولهِ وَ بُطْلان قَولِ الْمُخَالِف، فَيَضُرُّ وَ لاَ يَنْفَعُ، وَلاَ يَخْفَى مَا لِهَذا الأَمْرِ مِنْ أَثرٍ عَكسيّ علَى العَامَّة؛ لِظنِّهم بُطْلان مَقالتهِ بِسَببِ عَدَمِ قيَام الدَّليلِ عَلَى بُطْلاَن قَولِ الْمُخَالِفِ، وَ مِنْ ثَمَّ تَظْهَر مَقُولَة الْمُخَالِفِ أنَّها حقٌّ وَ صَوابٌ، وَلاَ حَولَ ولا قُوَّةَ إلاَّ بِالله.

لذا عَدَّدَ الإمامُ السِّجزيُّ في (الرَّدِّ عَلَى مَنْ أنكر الحرف والصَّوت)(ص 85-87)أَحَدَ عَشَر فَصْلاً ثُمَّ قَالَ :" فَجَمِيْعُ مَا ذَكْرتُ أنَّ بِكَ حَاجة إليهِ عنْد الرَّد عَليهم، أَحَد عَشرَ فَصْلاً مَنْ أَحْكَمَهَا تَمَكَّنَ مِنَ الرَّدِّ عَليهم، إذَا سَبَقَ لَهُ العِلْم بِمَذْهَبهِ وَمَذْهَبهمْ.
وَأمَّا العاميُّ وَالمبتدئُ سَبِيلهمَا أنْ لاَ يُصْغِيَا إلَى الْمُخَالِفِ، ولا يَحْتَجَّا عَليهِ؛ لأنَّهمَا إنْ فَعَلاَ خِيْفَ عَليهمَا الزَّلل عَاجِلاً وَ الانْفِتَال آجلاً".

لذَا فإنِّي أُذَكِّرُ هُنا ببعضِ الأُمُورِ الَّتي لابُدَّ مِنْ تَوفُّرها في الرَّادِّ، وهي:

1/ العِلْمُ الصَّحِيْحُ الْمَبْنِي عَلَى الوَحْيَين بِفَهْم السَّلفِ رَضي الله عنهم.
وهذا مطلبٌ أساس، لا مَعدلَ عنْه لِمَنْ رَامَ بَيَانَ الْحَقّ لِلْخَلقِ، وَرَدّ البَاطلِ وَدَحْض شُبه أَهْلهِ، وَفُقْدَانُهُ فُقْدانٌ للسِّلاَحِ الَّذي به يُدَافِعُ وَيُنَاضِلُ، قَال الحافظ صالح بن مهران الشيباني:" كُلُّ صاحب صناعةٍ لا يقدر أن يعمل في صناعته إلاَّ بآلةٍ، وآلةُ الإسلام العلم" (طبقات المحدثين بأصبهان)(2/216).

وقَدْ ذمَّ الله - وحذَّر- القَولَ بِغَيْر عِلْمٍ وَلاَ هُدَىً ولا كتَابٍ منير، فقال َالله تعالى (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ) (الحج:3).
قال العلاَّمة السَّعديُّ في (التفسير)(ص 573):" ومنَ النَّاسِ طَائفةٌ وَ فِرْقَةٌ، سَلَكُوا طَريقَ الضَّلالِ، وَ جَعلُوا يُجَادِلُون بِالبَاطِل الْحقَّ، يُريدونَ إِحْقَاقَ البَاطلِ، وَإبْطَالَ الْحقِّ، وَالْحَالُ أنَّهُم: فِي غَايَةِ الْجَهْلِ، مَا عنْدَهُم مِنَ العِلْمِ شَيءٌ، وَغَايةُ مَا عنْدَهُم تَقليد أئمَّة الضَّلال، مِنْ كُلِّ شَيطانٍ مَريدٍ، مُتَمَرِّدٍ عَلَى الله وَ عَلَى رُسُلهِ، مُعَانِدٍ لَهُم، قَد شَاق اللهَ وَ رَسُولَهُ، وَصَار مِنَ الأئمَّة الَّذين يَدْعُونَ إلَى النَّار".

وقال: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ) (الحج:8)
قَال الحافظُ ابنُ كثير في (التفسير)(3/218):" أي بِلاَ عَقْلٍ صحيحٍ، ولا نَقْلٍ صَريحٍ، بَلْ بِمُجَرَّدِ الرَّأي والْهَوى".
وقال العلاَّمة السعدي في (التَّفسير)(ص 574):" أيْ يُجادِلُ رُسُلَ اللهِ وَأَتْباعَهُمْ بِالبَاطلِ؛ لِيُدْحِضَ بِه الْحقَّ. (بِغَيْرِ عِلْمٍ) صَحيحٍ، (وَلاَ هُدىً) أي: غَير مُتَّبعٍ فِي جِدَالهِ هَذا مَنْ يَهديهِ، لاَ عَقْلٍ مُرْشِد، وَلاَ مَتْبوع مُهْتدٍ. (وَلاَ كِتَابٍ مُنِير) أي: واضحٍ بَيِّن، فَلاَ حُجَّة عَقليَّة وَلاَ نَقْلِيَّة، إنْ هِي إلاَّ شُبُهات يُوحيهَا إليه الشَّيطان".

قال الإمامُ شيخ الإسلام ابن تيميَّة:" كُلُّ مَنْ جَادلَ فِي اللهِ بِغَيرِ هُدىً وَلاَ كِتَابٍ مُنيرٍ؛ فَقَدْ جَادَلِ بِغَيرِ عِلْمٍ" (درء تعارض العقل والنقل)(5/265).

ومِنْ مَقَالاتِ الأئمَّة فِي هَذهِ النقطة، ما يلي:

أ/ قال الإمامُ الآجريُّ في (أَخْلاَق العُلماء)(ص 62-63) تَحتَ فَصلٍ عَقدهُ بعُنوان (صِفَةُ مُنَاظَرَةِ هَذا العَالِمِ إذَا احْتَاجَ إلَى الْمُنَاظَرةِ):" وَ أَعْظَمُ مِنْ هَذَا كُلِّهِ أنَّه رُبَّما احْتَجَّ أَحَدُهما بِسُنَّةٍ عَنْ رَسُولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم عَلَى خَصْمهِ؛ فَيَرُدّها عليهِ بِغَيْرِ تَمَيْيزٍ، كُلُّ ذَلكَ يَخْشَى أنْ تَنْكَسِرَ حُجَّتهُ، حَتَّى إنَّه لعلَّه أنْ يَقُولَ بِسُنَّةٍ عَن رَسُولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم ثَابِتَةٍ فَيَقُولُ: هَذَا بَاطِلٌ، وهَذَا لاَ أَقُولُ بِهِ، فَيَرُدَّ سُنَّةَ رَسُولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم بِرَأْيهِ بَغْيرِ تَمْييزٍ.
وَمِنْهم مَنْ يَحْتَجُّ فِي مَسألةٍ بِقَولِ صَحابِيٍّ؛ فَيَرُد عليهِ خَصمهُ ذَلكَ وَلاَ يَلْتَفت إلَى مَا يُحْتَجُّ عَليهِ، كُلُّ ذَلكَ نُصْرَة منْه لقولهِ، لاَ يُبَالِي أنْ يَردَّ السُّنَنَ وَالآثَار".

ب/ قال الإمامُ ابنُ بطة العُكبري في (الإبانة الكبرى)(2/540-541):"... اعْلَم يَا أخِي- رحَمك الله- أنَّ الَّذي تُبْلَى بهِ مِنْ أهْلِ هَذا الشَّأن لَنْ يَخْلُو أنْ يكُونَ واحِدَاً مِنْ ثَلاثة:

إمَّا رجُلاً قَدْ عَرَفْتَ حُسْنَ طَريقتهِ وَجَميلَ مَذْهبهِ وَمَحبَّتهِ للسَّلاَمَةِ وَقَصده طَريق الاسْتِقَامة، وَإنَّما قَدْ طَرَقَ سَمْعَه مِنْ كَلام هَؤلاء الَّذين قَدْ سَكَنَت الشَّياطِينُ قُلُوبَهُم، فهَي تَنْطِقُ بِأَنْواعِ الكُفْر عَلى ألسِنَتِهمْ، وَليس يَعْرِفُ وجْهَ الْمَخْرَجِ مِمَّا قَدْ بُليَ بِهِ، فَسُؤُالُهُ سُؤَال مُسْتَرشِدٍ يَلْتَمِسُ الْمَخْرَجَ مِمَّا بُلِيَ بهِ، وَالشِّفَا مِمَّا أُوذِيَ ... (بياضٌ في الأصل). . . إلَى عِلْمِكَ حَاجته إليْكَ حَاجَةَ الصَّادي إلى الْمَاءِ الزلاَل، وَ أنتَ قَد اسْتَشعرتَ طَاعتَهُ وَ أَمِنْتَ مُخَالفتهُ؛ فَهَذا الَّذي قَد افْتُرِضَ عَليكَ تَوفيقهُ وَ إرْشَادهُ مِنْ حَبَائِلِ كيْدِ الشَّياطين، وليَكُن مَا تُرْشِدُه بِه، و تُوقفهُ عَليهِ مِنَ الكتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالآثَار الصَّحيحةِ مِنْ عُلمَاء الأُمَّة منَ الصَّحَابة والتَّابعين، وَكُلّ ذَلك بالْحِكْمَة وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسنَةِ.
وَ إيَّاكَ وَالتَّكَلُّف لِمَا لاَ تَعْرفهُ، وَتَمَحُّل الرَّأي، والغَوصَ عَلى دَقِيقِ الكَلامِ؛ فَإنَّ ذَلكَ مِنْ فِعْلكَ بِدْعة، وَإنْ كُنتَ تُريدُ به السُّنَّة، فَإنَّ إِرَادَتَكَ لِلْحَقِّ مِنْ غَيْرِ طَريقِ الْحَقِّ بَاطِل، وَكَلامَكَ عَلَى السُّنَّةِ مِنْ غَيْرِ السُّنَّةِ بِدْعَة. وَلا تَلتَمس لصَاحبك الشِّفَاء بِسُقْمِ نَفْسكَ، وَلا تَطْلب صَلاحَهُ بِفَسَادِكَ؛ فإنَّه لاَ يَنْصَحُ النَّاسَ مَنْ غَشَّ نَفْسَهُ، وَمَنْ لاَ خَيْر فيهِ لِنَفسهِ لاَ خَيْرَ فِيهِ لِغَيرهِ، فَمَن أَرَادَ اللهُ وفَّقَهُ وَسَدَّدهُ ، وَمَن اتَّقَى الله أَعَانَهُ وَنَصَرَهُ ".

ج/ قَالَ شيخُ الإسلام ابن تَيميَّة في (درء تَعارض العَقل والنَّقل)(6/210-21) :" الرَّدُّ علَى أهلِ البَاطلِ لا يكونُ مُستوعباً إلاَّ إذا اتُّبعت السُّنَّة منْ كُلِّ الوجُوه، وإلاَّ فمَنْ وَافق السنَّة مِنْ وَجهٍ وَخَالَفَهَا مِنْ وَجْهٍ، طَمع فيهِ خُصومه مِنَ الوَجْهِ الَّذي خَالفَ فيه السُّنَّة، واحْتجوا عليه مَا وافقهم عليه منْ تِلك المقدِّمات المخالفةِ للسُّنَّةِ.
وقَد تَدبَّرتُ عامَّة ما يَحْتجُّ به أهْل البَاطِل عَلَى مَنْ هو أَقْرب إلى الْحَقِّ منْهم، فَوجدتُّه إنَّما تَكُونُ حُجَّة البَاطل قويَّة لِمَا تَركوه مِنَ الْحَقِّ الَّذي أَرْسَلَ الله به رَسُوله وأَنْزَل به كتَابه، فَيَكُون مَا تَركُوهُ مِنْ ذَلك الْحَقّ مِنْ أَعْظم حُجَّةِ الْمُبْطِل عَليهم..".

وقال أيضاً كما في (المجموع)(3/245):" ومما يجبُ أن يعلم أنَّ الذي يريد أن ينكر على النَّاس ليس له أنْ ينكر إلاَّ بِحُجَّةٍ وَبَيَانٍ..".

وقالَ أيضاً في (الرَّدِّ على المنطقيين)(ص 273):" فليسَ لأحدٍ أنْ يتَكلَّم بِلاَ عِلْمٍ، بَلْ يُحْذَرُ مِمَّنْ يَتَكَلَّمُ فِي الشَّرْعِيَّات بِلاَ عِلْمٍ، وفي العَقليَّات بِلاَ عِلْمٍ؛ فَإنَّ قوماً أرَادُوا بِزَعْمِهم نَصر الشَّرعِ بِعُقُولِهم النَّاقِصة وَ أَقْيِسَتِهِمُ الفَاسِدة، فَكان مَا فَعلوه مِمَّا جَرَأَ الْمُلْحِدينَ أَعْدَاء الدِّين عليهِ، فَلاَ لِلإسْلاَمِ نَصَرُوا، ولاَ لأَعْدَائهِ كَسَرُوا ".

وقال فيه أيضاً (ص 536-537):" ولَهذا كَانت مُنَاظرة كَثيرٍ مِنْ أهْل الكَلاَمِ لَهُمْ مُنَاظرة قَاصرة، حيثُ لَم يَعرف أولئك حَقيقةَ مَا بَعثَ الله به رُسُلَه، وَ أَنْزلَ بِه كُتُبه، وَمَا ذمَّهُ مِنَ الشِّركِ، ثُمَّ يَكْشِفُون بِنُور النُّبوَّةِ مَا عنْدَ هَؤلاء مِنَ الضَّلاَلِ، كمَا نَاظَرهم الشَّهْرستاني في كتاب (الملل والنحل) لِمَّا ذَكر فَصْلاً فِي الْمُنَاظَرةِ بَيْن الْحُنَفَاءِ وَبَيْنَ الصَّابِئَةِ الْمُشْركين؛ فَإنَّ الْحُنَفَاءَ يَقولون: بِتَوسُّط البَشَرِ، وَ أولئكَ يَقُولونُ بِتَوسُّط العُلْويَّات، فأخذَ يُبَيِّنُ أنَّ القَولَ بِتَوسُّط البَشَرِ أَوْلَى مِنَ القَولِ بِتَوسُّطِ العُلُويَّات.
ومعْلُومٌ أنَّه إذَا أخذَ التَّوسُّط عَلى مَا يَعْتَقِدُونَهُ فِي العُلويَّات كَانَ قَولهم أَظْهر، فَكَانَ رَدُّه عَليْهم ضَعيفاً؛ لِضَعْفِ العِلْمِ بِحَقيْقَةِ دِيْنِ الإسْلاَمِ...".

وقال أيضاً في (درء تعارض العقل والنقل)(1/357):" كُلُّ مَنْ لَمْ يُنَاظِر أَهْلَ الإلْحَادِ وَالبِدَعِ مُنَاظَرةً تَقْطَعُ دَابِرَهُم، لَمْ يَكُنْ أَعْطَى الإسْلاَمَ حَقَّه، وَ لاَ وفَّى بِمُوجِبِ العِلْمِ وَالإيْمَانِ، وَلاَ حَصَلَ بِكَلاَمهِ شِفَاءُ الصُّدُورِ وَطُمَأنِيْنَة النُّفُوس، ولاَ أَفَادَ كَلامهُ اليَقِيْن".

وَقَدْ عِيْبَ عَلَى بَعْضِهم أنَّه:" كَانَ يُقَرِّرُ فِي مَسَائل كَثِيرة مَذاهبَ الْخُصُومِ وَشُبَهَهم بِأَتَمِّ عِبَارَةٍ، فَإذَا جَاء إلَى الأَجْوبَةِ اقْتَنَعَ بِالإِشَارَةِ " قالَه العَلاَّمة أبو شامة في (ذيل الروضتين)(ص 68).


2/ التَّجرُّد لله في ردِّه، بِأَنْ يَكُون القَصْد وَالْمُراد إظهار الحقِّ والوصول إليه، لا الْمُغَالبة وَالْمُخَاصمة.
الانتصارُ لِلحقِّ وَبَيانُهُ، وَدَحْضُ البَاطِلِ وَردّه، هُو المقصدُ وَالْمُرادُ لِمَنْ أبَانَ الْحقَّ وردَّ الباطل، وقِيَام المرءِ الْمُتَّقي بِذَلك إنَّما هُو للهِ لاَ لِحظٍّ فِي النَّفس أو المغالبة ونَحوها.
ومعلومٌ أنَّ الشَّيطانَ حَريصٌ كُلَّ الْحِرصِ عَلى أنْ يُفْسِدَ النِّيَّةَ مِنْ إخْلاَصهَا لِبَارِئهَا، فَعَلَى المرءِ أنْ يَتَذكَّر دَوْماً أنَّ مَا يَقُومُ بهِ فِي هَذا الْمَقَامِ إنَّمَا هُو قُرْبَةٌ يَتَقرَّب بها للهِ، وَ القُرَبُ لا يَقْبَلُها اللهُ إلاَّ إنْ كَانَتْ لَه خَالصة (أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ)(الزمر: من الآية3).

ومنْ مَقَالات الأئمة في هذا المقام:

أ/ قولُ الإمامِ الآجريُّ في (أخلاق العُلماء)(ص 62-63) و قَدْ سَبَقَ فِي (النُّقْطة الأولى)، وَلا يَمْنَعُ مِنْ تِكراره لفائدتهِ قال:" وَ أَعْظَمُ مِنْ هَذَا كُلِّهِ أنَّه رُبَّما احْتَجَّ أَحَدُهما بِسُنَّةٍ عَنْ رَسُولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم عَلَى خَصْمهِ؛ فَيَرُدّها عليهِ بِغَيْرِ تَمَيْيزٍ، كُلُّ ذَلكَ يَخْشَى أنْ تَنْكَسِرَ حُجَّتهُ، حَتَّى إنَّه لعلَّه أنْ يَقُولَ بِسُنَّةٍ عَن رَسُولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم ثَابِتَةٍ فَيَقُولُ: هَذَا بَاطِلٌ، وهَذَا لاَ أَقُولُ بِهِ، فَيَرُدَّ سُنَّةَ رَسُولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم بِرَأْيهِ بَغْيرِ تَمْييزٍ.
وَمِنْهم مَنْ يَحْتَجُّ فِي مَسألةٍ بِقَولِ صَحابِيٍّ؛ فَيَرُد عليهِ خَصمهُ ذَلكَ وَلاَ يَلْتَفت إلَى مَا يُحْتَجُّ عَليهِ، كُلُّ ذَلكَ نُصْرَة منْه لقولهِ، لاَ يُبَالِي أنْ يَردَّ السُّنَنَ وَالآثَار".

ب/ قالَ الإمامُ ابنُ بطة العُكبري في (الإبانة الكبرى)(2/541-542):"... اعْلَم يا أخي - رَحِمك الله- أنَّ الَّذي تُبلْى بِهِ مِنْ أَهْلِ هَذا الشَّأن لَنْ يَخْلُو أنْ يكونَ واحداً مِنْ ثَلاثة...
وَ رَجُلٌ آخَر يَحْضُر فِي مَجْلسٍ أَنْتَ فِيْهِ حَاضِرٌ تَأْمَنُ فِيْهِ عَلَى نَفْسِكَ، وَيَكْثر نَاصِروكَ وَمُعِيْنوكَ، فَيَتَكلَّمُ بِكَلامٍ فِيْه فِتْنة وَبَليَّةٌ عَلَى قُلوبِ مُسْتَمعيهِ؛ لِيُوقعَ الشَّكَّ فِي القُلوبِ، لأنَّهُ هُو مِمَّنْ فِي قَلبهِ زَيغٌ يَتَّبعُ الْمُتَشَابِهِ ابْتَغَاءَ الفِتْنَةِ وَالبِدْعَةِ، وَقَد حَضرَ مَعَكَ مِنْ إِخْوَانِكَ وَأهْلِ مَذْهَبكِ مَنْ يَسْمعُ كَلاَمهُ ، إلاَّ أنَّهُ لاَ حُجَّةَ عِنْدَهُم عَلَى مُقَابَلتِهِ، وَلاَ عِلْمَ لَهُم بِقَبِيْحِ مَا يَأتِي بِهِ، فَإنْ سَكَتَّ عَنْهُ لَمْ تَأْمَنْ فِتْنَتَهُ بِأنْ يُفْسِدَ بِهَا قُلُوب الْمُسْتَمِعينَ، وَ إدْخَالِ الشَّكِّ عَلَى الْمُسْتَبصِرِين، فَهَذا أيضاً مِمَّا تَرُدُّ عَليهِ بِدْعَتَهُ، وَ خَبيثَ مَقَالتِهِ، وَتَنْشُرُ مَا علَّمَكَ اللهُ مِنَ العِلْمِ وَالْحِكْمَةِ.
وَ لاَ يَكُن قَصْدكَ فِي الكَلاَمِ خُصُومتهُ وَلاَ مُنَاظَرتهُ، وَليَكُنْ قَصْدُكَ بِكلامكِ خَلاَص إخْوَانِكَ مِنْ شَبكتِهِ، فَإنَّ خُبَثَاءَ الْمَلاَحِدةِ إنَّمَا يَبْسُطُونَ شِبَاك الشَّيَاطين؛ لِيَصِيْدُوا بِهَا الْمُؤْمِنين، فَلْيَكُن إِقْبَالكَ بِكَلاَمكَ، وَنَشْر عِلْمِكَ وَحِكْمَتِك، وَبِشْرِ وَجْهِكَ، وَفَصيحِ مَنْطِقكَ عَلَى إخْوَانِكَ، وَمَنْ قَدْ حَضَرَ مَعكَ لاَ عَليهِ، حَتَّى تَقْطَعَ أُوَلئكَ عَنْهُ، وَتَحُول بَيْنَهُم وَبَيْنَ اسْتِمَاعِ كَلاَمهِ، بَلْ إنْ قَدرتَ أنْ تَقْطَعَ عَليهِ كَلاَمَهُ بِنَوعٍ مِنَ العِلْمِ تُحَوِّلُ بِهِ وُجُوهَ النَّاسِ عَنْهُ، فَافْعَلْ...".

ج/ قَالَ الإمَامُ السِّجزيُ في رسالتهِ ( الرَّد على مَنْ أَنْكَرَ الْحَرْفَ والصَّوت) (ص 235): " وَ ليَكُنْ قَصد مَنْ تكلَّم في السُّنَّة اتَّباعها وقَبُولها لاَ مُغَالَبةالْخُصُوم، فَإنَّه يُعَانُ بذلكَ عَليهم، وإذَا أرَادَ الْمُغَالبة رُبَّما غُلِبَ".

د/ قالَ العلاَّمة الشَّاطبي في (الاعتصام)(2/236-237):"..وأمَّا ذُو الزَّيغِ، فَإنَّ هَواهُ لاَ يُخلِّيه إلَى طَرحِ الْمُتَشابِه، فَلاَ يَزالُ فِي جِدَالٍ عليهِ وَطَلبٍ لِتَأويلهِ، وَيَدلُّ عَلى ذَلكَ أنَّ الآيةَ نَزلَتْ فِي شَأنِ نَصَارى نَجْران، وَ قَصْدهم أنْ يُنَاظِرُوا رَسُولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّم فِي عِيْسى بنِ مَرْيم عَليهما السَّلام...والْحَاصلُ أنَّهُم إنَّما أَتَوا لِمُنَاظَرةِ رَسُولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم وَمُجَادلتهِ، لاَ يَقْصِدُوَن اتِّباعَ الْحَقِّ.
والْجِدَالُ عَلَى هَذا الوَجْهِ لاَ يَنْقَطِعُ... وشأنُ هَذا الْجِدالِ أنَّهُ شَاغِلٌ عَنْ ذِكْرِ الله وعَنِ الصَّلاَةِ، كالنَّرد وَ الشَّطَرنْجِ وَغَيرهما..".

هـ/ قال العلاَّمة ابنُ النَّجَّارِ في (شَرحِ الكَوكب المنير)(3/361) نَقْلاً عن أبِي مُحمَّد الجوزي أنَّه قالَ:" أَوَّلُ مَا تَجِبُ البُدَاءَةُ بِهِ: حُسْنُ القَصْدِ فِي إظْهَارِ الْحقِّ، طَلباً لِمَا عِنْدَ الله تعالى، فَإنْ آنسَ مِنْ نَفسهِ الْحَيْدَ عَن الغَرَضِ الصَّحيحِ فَلْيَكُفها بِجهدهِ، فَإنْ مَلَكهَا، وَإلاَّ فَلْيَتْرُكِ الْمُنَاظرةَ فِي ذَلكَ الْمَجْلِس..".

وقالَ (3/364):" فأمَّا إذَا كانَ الْجَدَلُ عَلى وَجْهِ الغَلَبَةِ وَالْخُصُومَةِ وَالغَضَبِ وَ وَجْهِ الْمِرَاءِ...فَمُزيلٌ عَنْ طَريقِ الْحقِّ، وَإليهِ انْصَرفَ النَّهي عَنْ (قِيْلٍ وقَال)..".

و/ قال العلاَّمة الشَّوكاني في (أدبِ الطلب)(ص 81):" وكثيراً مَا تَجِدُ الرَّجُلين الْمُنْصِفَين مِنْ أَهْلِ العِلْمِ قَد تَبَاريَا فِي مَسألةٍ وَ تَعارضَا فِي بَحثٍ، فَبَحثَ كُلُّ وَاحدٍ مِنْهُما عَنْ أَدِلَّةِ مَا ذَهبَ إليْهِ، فَجَاءَا بِالْمُتَردِّيَةِ وَ النَّطِيْحَةِ، عَلى عِلْمٍ مِنْهُ بِأنَّ الْحقَّ فِي الْجَانِبِ الآخَر، و أنَّ مَا جَاء بهِ لاَ يُسْمِنُ وَ لاَ يُغْنِي مِنْ جُوعٍ.
وَهَذا نَوعٌ مِنَ التَّعَصُّبِ دَقِيقٌ جدَّاً يَقَعُ فِيْهِ كَثيرٌ مِنْ أهْلِ الإنْصَافِ، ولا سيَّمَا إذَا كانَ بِمَحْضر النَّاسِ، وَ أنَّه لا يَرْجِعُ الْمُبْطِلُ إلَى الْحقِّ إلاَّ فِي أَنْدَرِ الأَحْوَالِ، وَغَالب وقُوع هَذا فِي مَجَالسِ الدَّرْسِ وَمَجامعِ أهْلِ العِلْمِ".

3/ العَدْلُ.
إنَّ الله عزَّ في عُلاه حَكَمٌ عدلٌ، حرَّم الظُّلمَ علىَ نَفْسهِ وَجَعَلهُ بَيْنَ عِبَاده مُحرَّماً، لذَا فَإنَّ الظُّلم مُحَرَّمٌ علَى الإطْلاَقِ، وأنَّ الواجبَ القيام بِضدِّه ألاَ وَهُو (العَدْلُ)، لأنَّ:" الإنْسَانَ خُلقَ ظَلوماً جهولاً، فالأصلُ فيه عدَمُ العِلْم، وميلُه إلى ما يَهْواهُ مِنَ الشَّرِّ، فيَحْتَاجُ دائماً إلى عِلْمٍ مُفصَّلٍ يَزُولُ به جَهلهُ، وَ عَدلٍ فِي مَحبَّته وبُغضهِ وَ رضاهُ وغضبهِ، وفعلهِ وَتركهِ وَ إعطائهِ وَمنعهِ، وَ كُلّ ما يَقُولهُ وَيَعْملهُ يَحْتاجُ فيهِ إلَى عَدْلٍ يُنَافِي ظُلمه، فإنْ لَمْ يَمُنّ اللهُ عليهِ بِالعِلْمِ الْمُفَصَّل والعَدْلِ الْمُفَصَّل، وإلاَّ كانَ فيهِ مِنَ الْجَهْلِ وَالظُّلمِ مَا يَخْرُجُ به عَن الصِّراط الْمُسْتَقيم".
قَاله شيخ الإسلام ابن تيمية في (قاعدة في أنواع الاستفتاح في الصلاة)(ص40).

و لَمَّا كانَ بَيانُ الْحَقِّ لِلْخَلْقِ وَالرَّد عَلى البَاطلِ مُهمَّة شَريفة نَبيلة؛ فَإنَّ ذلكَ لاَ يُبِيْحُ ظُلْمَ الْمَرْدُودِ عليهِ وَلَو كَانَ كَافراً!! وعَلَى هَذا الْميزان العَدل قَامَ أَهْلُ السُّنَّةِ فِي رُدُودِهم عَلى الْمُخَالِفينَ، بِعِلْمٍ وَعَدْلٍ.

قالَ شَيخُ الإِسْلاَمِ ابنُ تيميَّة في (الرَّد على الإخنائي) (ص 242):" وهَذَا كلُّه مِمَّا نَهى عنْهُ رَسُولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم فِي الأَحَاديثِ الصَّحيحةِ، فَكَيْفَ يُشبَّهُ مَا نَهَى عَنْهُ وَحَرَّمَهُ بِمَا سَنَّهُ وَفَعَلهُ؟ وَهَذا الموضعُ يَغْلَطُ فيْهِ هَذا الْمُعْتَرِضُ وأمثاله، لَيسَ الغَلَطُ فِيْهِ مِنْ خَصَائصهِ، وَنَحْنُ نَعْدِلُ فيْهِ وَنقصدُ قَول الْحقِّ والعَدْل فيهِ كمَا أمر الله تَعالى، فإنَّه أمرَ بِالقِسْطِ علَى أعدائِنَا الكُفَّار، فَقَالَ سُبْحَانَهُ (كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى)- (المائدة: من الآية8)-، فكَيْفَ بِإخْوانِنَا الْمُسْلِمينَ، وَالْمُسْلمونَ إِخْوةٌ، واللهُ يَغفرُ لَهُ ويُسدِّده، ويوفّقهُ وَ سائر إخْواننَا الْمُسْلِمينَ".

وقَالَ أيضاً كما في (مجموع الفتاوى)(3/245):"..هَذا وأنَا فِي سِعَةِ صَدْرٍ لِمَن يُخَالفني، فإنَّهُ وَإنْ تَعدَّى حُدُود الله فِيَّ بِتَكْفِيرٍ أو تَفْسيقٍ أوْ افْتَراءٍ أو عَصبيَّةٍ جَاهليَّةٍ: فَأنَا لاَ أَتَعَدَّى حُدُودَ الله فيهِ، بَلْ أضْبِطُ مَا أَقُولهُ وَ أَفعلهُ، وَ أَزنُهُ بِمَيزانِ العَدْلِ، وَأجعلهُ مُؤْتَماً بالكتَابِ الَّذي أنزلَهُ الله، وَجَعَلهُ هُدىً للنَّاسِ، حَاكماً فيْمَا اخْتَلَفُوا فيهِ، قالَ الله تعالى (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ)- (البقرة: من الآية213)-، وقال تعالى (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ ) -(النساء: من الآية59)- وقال تعالى (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ )- (الحديد: من الآية25)-، وذلك أنَّك ما جزيتَ من عصى الله فيك بمثل أن تطيع الله فيه (إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ) - (النحل:128)-، وقال تعالى( وَ إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ)- (آل عمران: من الآية120)-".

ومن المقالات في هذه النقطة زيادةً على ما سبقَ:

أ/ قال شيخُ الإسلام ابن تيميةفي (الجواب الصِّحيح)(1/107-108):" ولَمَّا كَانَ أَتْبَاعُ الأنَبياء هُم أهْلُ العِلْمِ وَالعَدْلِ، كانَ كَلام أهْل الإسلامِ وَالسُّنَّةِ مَعَ الكُفَّارِ وَأهلِ البِدَعِ بِالعِلْمِ وَالعَدْلِ لاَ بِالظَّن و مَا تَهوىَ الأَنْفُس، ولِهَذا قالَ النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم (القُضَاةُ ثلاثةٌ..)، فإذَا كانَ مَنْ يَقْضي بَيْنَ النَّاسِ فِي الأَمْوَالِ وَالدِّمَاءِ وَالأَعْرَاضِ إذَا لَمْ يَكُن عَالِمَاً عَادِلاً كَانَ فِي النَّارِ، فَكَيفَ بِمَنْ يَحْكُمُ فِي الْمِلَلِ وَالأَدْيَانِ وَأُصُول الإيْمَانِ وَالْمَعَارِفِ الإلهيّة وَالْمَعالِمِ العَليّة بِلاَ عِلْمٍ وَلاَ عَدْلٍ؟".

وقال أيضاً في (الرَّدِّ على الإخنائي)(ص 110):" وليسَ الْمَقْصُودُ أيْضَاً العُدْوانُ عَلَى أَحَدٍ- لاَ الْمُعْتَرِضِ وَلا غَيرِهِ- وَ لاَ بَخْسِ حَقِّه وَلاَ تَخْصيصهِ بِمَا لاَ يَخْتَصُّ بِهِ مِمَّا يَشْركهُ فِيْهِ غَيرهُ، بَلْ الْمَقُصود الكَلاَم بِمُوجبِ العِلْمِ وَ العَدْلِ وَ الدِّيْنِ كمَا قال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى)-(المائدة: من الآية8)-".

ب/ قَالَ الإمامُ ابنُ رجبٍ الحنبلي في (جامع العلوم والحكم)(1/372) شارحاً حديث (لا تَغْضَبْ) عنْدَ البُخاريّ، قَال:" وكَانَ مِنْ دُعَائهِ صلَّى الله عليه وسلَّم (أَسْأَلُكَ كَلِمةَ الْحَقِّ فِي الغَضَبِ وَالرِّضا)، وهَذا عَزيزٌ جدَّاً، وهو أنَّ الإنْسَانَ لاَ يَقُولُ سِوى الْحَقِّ سَواء غَضِبَ أو رضيَ، فإنَّ أكثرَ النَّاسِ إذَا غضبَ لا يَتَوقَّف فِيْمَا يَقُولُ".

ج/ قال الإمامُ ابنُ القيم في (إعلام الموقعين)(3/106-107):"... واللهُ تعالى يُحبُّ الإنْصَافَ، بَلْ هُو أَفضلُ حِليةٍ تَحلَّى بِهَا الرَّجُل، خُصوصاً مَنْ نَصَّبَ نَفْسه حَكَماً بَين الأَقْوالِ وَالْمَذاهبِ، وقَد قالَ الله تعالى لرسوله (وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ )-(الشورى: من الآية15)- فَورثَةُ الرَّسُولِ مَنْصبهمْ العَدل بَيْنَ الطَّوائف و ألاَّ يَميلَ أَحَدهُم مَعَ قَريبهِ وَذَوي مَذْهبهِ وَطَائفتِهِ وَ مَتْبُوعهِ، بَلْ يَكُونُ الْحَقّ مَطْلوبهُ، يَسِيْرُ بِسيرهِ، وَيَنْزِلُ بِنُزُولهِ، يَدينُ بدينِ العَدْلِ وَالإنْصَافِ وَيَحْكِّمُ الْحُجَّة، وما كانَ عليهِ رَسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم وأَصْحَابُهُ؛ فَهُو العِلْمُ الَّذي قَد شَمَّر إليهِ، وَ مَطْلُوبُهُ الَّذي يَحومُ بِطَلبهِ عليهِ، لا يثْني عنَانهُ عَذْل عَاذلٍ، وَلا تَأْخذه فيهِ لَومَةُ لائِمٍ، وَلاَ يَصدُّه عَنْهُ قَولُ قَائلٍ".

وقالَ كَلاماً نفيساً جدَّاً في (الرِّسَالة التَّبوكيَّة)(ص 58-64):" ومِنَ العَجبِ أنْ يَدَّعِي حُصُولَ هَذه الأَوْلويَّة وَالْمَحبَّة التَّامَّةِ مَنْ كَانَ سَعيهُ وَاجْتِهادهُ وَنَصَبهُ فِي الاشْتِغَالِ بِأقْوالِ غَيرهِ- أيْ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم- وتَقْرِيرِهَا، والغَضَبِ وَالْمَحبَّةِ لَهَا، وَ الرِّضَا بِها وَ التَّحَاكُمِ إليْهَا، وَعَرْضِ مَا قَالَهُ الرَّسُولُ عَليهَا، فَإنْ وَافَقهَا قَبِلهُ، وَإنْ خَالفهَا التَمَسَ وُجُوه الْحِيَلِ وَبَالَغَ فِي رَدِّهِ ليَّاً وإعْراضاً، كمَا قال تعالى (وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً)-(النساء: من الآية135)-.
وقدْ اشْتَملت هَذه الآية علَى أَسْرَار عَظيمةٍ يَجِبُ التَّنبيهُ عَلى بَعْضها؛ لِشدَّة الْحَاجَةِ إليْها؛ قال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً) -(النساء:135)-
فَأَمرَ سُبْحَانَهُ بِالقيامِ بِالقِسْطِ وَهُو: العَدْلُ فِي هَذه الآية، وهَذا أمرٌ بالقيَامِ بِه فِي حَقِّ كُلِّ أَحَدٍ، عَدُوَّاً كانَ أوَ وَليَّاً، وَأحَقّ مَا قَامَ لَهُ العَبْد بِقَصْدِ الأَقْوالِ وَالآرَاءِ وَ الْمَذاهبِ؛ إذْ هِيَ مُتعلِّقة بِأمرِ الله وَخَبرهِ.
فَالقيامُ فِيْهَا بِالَهَوىَ وَالْمَعْصِيَةِ مُضَادٌ لأَمْرِ الله، مُنافٍ لِمَا بَعثَ بِه رَسُولَهُ.
والقيامُ فيْها بِالقِسْطِ وَظِيْفةُ خُلَفاءِ الرَّسُولِ فِي أُمَّتهِ، وَأُمَنَائهِ بَين أَتْبَاعهِ، وَلا يَستحقّ اسمَ الأَمَانَةِ إلاَّ مَنْ قَامَ فِيْهَا بِالعَدْلِ الْمَحض، نَصيحةً للهِ وَلكتَابهِ وَلِرَسُولهِ وَلِعَبادهِ، و أولئكَ هُم الوَارثُون حَقَّاً، لاَ مَنْ يَجْعل أَصْحَابه وَنِحْلته وَمَذهبه مِعْيَاراً علَى الْحقِّ مِيْزاناً لَهُ، يُعَادي مَنْ خَالَفَهُ وَيُوالِي مَنْ وَافَقهُ بِمُجرَّدِ مُوافقتِه وَمُخَالفتهِ، فَأينَ هَذا منَ القِيَامِ بِالقِسْطِ الَّذي فَرضه الله عَلى كُلِّ أحدٍ؟ وهُو فِي هَذا البَابِ أَعْظَمُ فَرْضَاً وأكَبْر وُجُوباً.
ثم قَالَ (شُهَدَاء للهِ): الشَّاهدُ هُو: الْمُخْبِرُ، فإنْ أخبرَ بِحقٍّ فَهُو شَاهدُ عَدْلٍ مَقْبُول، وإنْ أَخبرَ بِبَاطلٍ فَهُو شَاهدُ زُورٍ، وَ أمرَ تَعالى أنْ يكونَ شَهيداً لَهُ مَع القيَامِ بِالقِسْطِ، وَهَذا يَتَضمَّنُ أنْ تَكُونَ الشَّهَادةُ بالقِسْطِ، وأنْ تَكُونَ للهِ لاَ لِغيرهِ، وقالَ في الآية الأخرى (كُونُوا قَوَّامِينَ للهِ شُهَداءَ بِالقِسْطِ)- (المائدة:8)-، فَتَضمَّنت الآيتان أُموراً أربعة:
أحدُها: القِيَامُ بِالقِسْطِ.
الثَّاني: أنْ يَكونَ لله.
الثَّالثُ: الشَّهادةُ بِالقِسْطِ.
الرَّابعُ: أنْ تَكُونَ للهِ.
واخْتَصَّتْ آيَة النِّسَاءِ بِالقِسْطِ وَالشَّهَادَةِ للهِ، وآية الْمَائدةِ بِالقِيَامِ للهِ وَ الشَّهَادَةِ بِالقِسطِ، لِسِرٍّ عَجِيْبٍ مِنْ أَسْرَارِ القُرْآنِ لَيس هَذا مَوضع ذكْرهِ.
ثُمَّ قَالَ تَعالى ( وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ ) فأمرَ سُبْحَانهُ أنْ يُقَامَ بِالقِسْطِ وَ يُشْهدَ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ، وَلَو كَانَ أَحَبَّ النَّاسِ إلَى العَبْدِ؛ فَيَقوم بِالقِسْط علَى نَفسهِ وَ وَالِدَيهِ الَّلذين هُمَا أَصْلهُ، وَ أَقَاربهِ الّذينَ هُم أَخَصُّ بهِ، وَ الصَّدِيقِ مِنْ سَائرِ النَّاسِ، فَإنْ كَان مَا فِي العِبْدِ مِنْ مَحبَّةٍ لِنَفسهِ وَلِوَالديهِ وَ أَقْرَبِيه يَمْنعهُ مِنَ القِيَامِ عَليهم بالْحقِّ وَلاَ سِيَّمَا إذَا كَانَ الْحَقُّ لِمَن يُبْغِضهُ وَيُعَاديهِ قبلهمْ، فَإنَّهُ لاَ يَقومُ بِه فِي هَذا الْحَالِ إلاَّ مَنْ كَانَ اللهُ وَ رَسُولُهُ أَحبّ إليهِ مِنْ كُلِّ مَا سِوَاهُمَا.
وهَذا يَمْتَحِنُ بِهِ العَبْدُ إِيْمَانَهُ، فَيَعرف مَنْزِلَةَ الإيْمَان مِنْ قَلبهِ وَ مَحَلّه منْهُ، وَعَكسُ هَذا عَدلُ العَبْدِ فِي أَعْدائهِ وَمَنْ يَجْفُوه، فإنَّهُ لاَ يَنْبغي أنْ يَحْمِلَهُ بُعْضُهُ لَهُم أنْ يَحِيْفَ عَليهمْ، كمَا لاَ يَنْبَغي أنْ يَحْملَهُ حُبُّهُ لِنَفْسهِ وَوَالديهِ وَأقَارِبِهِ عَلَى أنْ يَتْرُكَ القِيَامَ عَليْهم بِالقِسْطِ، فَلا يُدْخِله ذَلكَ البُغْضُ فِي بَاطلٍ، وَلاَ يَقْصُرُ بِهِ هَذا الْحُبُّ عَنِ الْحقِّ، كمَا قَال بَعضُ السَّلفِ ( العَادِلُ هُو الَّذي إذَا غَضِبَ لَمْ يُدْخِلْهُ غَضَبُهُ فِي بَاطلٍ، وإذَا رَضِيَ لَمْ يُخْرِجْهُ رِضَاهُ عَنِ الْحَقِّ ).
فاشْتَملت الآيتَان عَلى هَذين الْحُكْمَيْن،وَهُما:
القِيَامُ بِالقِسْطِ، وَالشَّهَادَةُ بِهِ، عَلَى الأَوْليَاءِ وَالأَعْدَاءِ..".

4/ الأمَانَةُ.
إنَّ تَحقيقَ الأمَانَةِ فِي نَقْلِ قَولِ الْمُخَالِفِ لِلرَّدِّ عليهِ هُوَ مِنَ (العَدْلِ) الْمُتَقدِّم بَيانهُ، وَ الإخْلاَلُ بِه نَوْعُ ظُلمٍ، ومِمَّا سَبَقَ أيضاً أنَّه يَجبُ أنْ يكونَ القَصد وَالغَرَضُ مِنَ الرَّدِّ (ا لوصُول إلى الْحَقِّ ).
وهَذَا الْمَسْلَك قَدْ سَلَكهُ أئمَّة أهل السُّنَّة مَعَ الْمُخَالِفين جَمِيْعاً، فَيَذْكُرُونَ أَقْوالهم مِنْ غَيْرِ إخْلاَلٍ، ثُمَّ يَكرُّون عليهَا بِالرَّدِّ والدَّحْضِ.
قالَ شَيخُ الإسلام ابن تيميَّة في (الجواب الصَّحيح)(1/99):" وأنَا أَذْكُرُ مَا ذَكَروهُ بِأَلْفَاظِهِمْ بِأَعْيَانِهم فَصْلاً فَصْلاً، وَ أُتْبِعُ كُلَّ فَصْلٍ بِمَا يُنَاسبهُ مِنَ الْجَوابِ فَرْعَاً وَأَصْلاً، وَعَقْداً وَحَلاً..".
و قالَ في مَوطنٍ آخر :" وهذه ألفاظهم بأعيانها" (الجواب الصَّحيح)(3/28).
وقال في (الرَّدِّ على الإخنائي)(ص 111):" ولكنْ لَمَّا كَانَ هَذا صنَّفَ مُصنَّفاً وأَظْهَرَهُ وشَهَرهُ، لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ حِكَايَةِ أَلْفَاظِهِ وَ الرَّدِّ عَليهِ وَ عَلَى مَنْ هُو مِثْلهُ، مِمَّن يَنْتَسِبُ إلَى عِلْمٍ وَدِيْنٍ، وَيَتكلَّمُ فِي هَذهِ الْمَسألةِ بِمَا يُنَاقِضُ دِيْنَ الْمُسْلِمْين، حَيثُ يَجْعَلُ مَا بَعَثَ اللهُ بِهِ رَسُولَهُ كُفْراً، وهَذَا رَأْسُ هَؤلاءِ الْمُبَدِّلينَ، فَالرَّدُّ عَليهِ ردٌّ عَليْهم".

وقالَ الإمامُ الهمام ابنُ القيم في مقدِّمة كتَابه العظيم (هداية الحيارى)(ص 39):"... وضمَّنتُه أَجْوبَةَ الْمَسائلِ وَتَقرير نُبوَّة مُحمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم، بِجَميعِ أَنْواعِ الدَّلائل، فجَاءَ بِحَمْدِ الله وَ منِّهِ وَتَوْفيقهِ كِتَاباً مُمْتِعَاً مُعْجباً، لاَ يَسْأمُ قَاريهِ، وَلاَ يَمَلُّ النَّاظر فيهِ...يُعطيكَ مَا شئتَ مِنْ أَعْلاَمِ النُّبوَّةِ وَ بَراهين الرِّسَالَةِ، وَبِشَارات الأنْبِيَاء بِخَاتِمهِمْ، وَاستْخِرْاجِ اسْمهِ الصَّرِيْح مِنْ كُتُبهمْ، وَذكر نَعتهِ وَصِفَتهِ وَ سِيرَتهِ مِنْ كُتُبهمْ، وَالتَّمييز بَين صَحيحِ الأَدْيَان وَ فَاسِدِهَا، وَكَيْفِيَّة فَسَادِهَا بَعدَ اسْتِقَامَتهَا، وَجُملة مِنْ فَضَائحِ أَهْلِ الكِتَابَيْن وَمَا هُمْ عَليهِ، وأنَّهُم أَعْظَمُ النَّاسِ بَراءَةً مِنْ أَنْبِيَائِهم، وأنَّ نُصُوصَ أَنْبِيَائِهم تَشْهدُ بِكُفْرِهم وَضَلالِهمْ، وَغَير ذَلكَ مِنْ نُكَتٍ بَدِيْعَةٍ لاَ تُوجدُ فِي سِوَاهُ".

5/ التَّثبُّت.
إنَّ تَحقيقَ هَذا الأَمْر أيضاً مُتَعلِّقٌ وَمُرتَبِطٌ بِمَا سَبَق فِي النُّقطة رقم (3) الْمُخْتَصَّة بِـ(العَدْلِ)؛ إذْ العَدَالةُ تَقْتَضي أنْ يَتَثَبَّتَ الرَّادُّ مِنْ قَولِ أَوْ كَلاَمِ الْمَرْدُودِ عَليهِ، بإحدىَ طُرقِ الإثْباتِ الصَّحيحة؛ لِيَصحّ حُكمهُ وَنَقْدُهُ.
و هذا الأمرُ أعني (التَّثَبُّت) مِنَ القَواعدِ الْمُقَرَّرة لدَى أَهْل السُّنَّة، وهُو يَدلُّ عَلَى نَزَاهتهم وَعَدْلِهم وَ إنْصَافِهم، لكنَّ هَذه القَاعدة وَ(العَدْلُ) وَ(الإنْصَافُ)، وَنَحوها مِنَ القَواعدِ وَالأُصُولِ الْمُتَرابطة السُّنِّية العَظيمة، حَاولت بَعْضُ الفِئَامِ قَلْبَ حَقَائِقَها وَتَزْويرهَا عَنْ أُصُولِهَا السُّنِّية، فَشَغَّبوا بِهَا عَلَى أَهْلِ السُّنَّةِ ظنَّاً منْهُم أنَّ الأمْرَ يَنْطَلِي وَيَمرّ مِنْ غَيْرِ نَخْلٍ وَكَشْفٍ وَإِبْطَالٍ، وَالله غَالبٌ عَلَى أَمْرِهِ.
فَهَذا الأصل السُّنِّي قَدْ تَكَلَّمتُ عليه مُفصَّلاً فِي ردِّي عَلَى المشغِّبِ بِالبَاطِلِ أَبِي الْحَسنِ مُصْطَفى بن إسماعيل المأربي المصري في كتابي (الفتح الرباني في الرد على أبي الحسن السليماني) (الثابت الثاني: التثبت) من (ص218-233)، وذَكَّرتُ هُنَاك بأمورٍ تَتعلَّق بتَحَقِيْقِ هَذَا الأصلِ، وَبَعض طُرق إِثْبَاتهِ لدَى أَهْل السُّنَّةِ، وَالَّتِي منْها: ( أَوَّلاً: الرِّحْلَةُ فِي طَلبِ الْحَديثِ، وَالعنَاية فِي النَّقْل) و(ثَانياً: قَبولُ خَبَر العَدْلِ) وَ(الكَشْف عَنْ حَالِ الرَّجُل الْمُخَالِفِ مِنْ خِلالِ كُتُبهِ وَمُصَنَّفَاتهِ) وَ (إعْمَال قَاعدة: بَلَديّ الرَّجُل أَعْرَف بِه).

فأكْتَفي بهِ عَن التِّكرار هُنا، والله الموفق.

6/ عَدَمُ ردِّ البَاطل بِبَاطِلٍ، وإنَّما يُرَدُّ البَاطل بالْحَقِّ.
سبقَ أنْ ذَكرتُ أنَّ المقصودَ مِنَ الرَّدِّ عَلَى الْمُخَالِفِ (الوصُول إلى الْحَقِّ وَبيانه) وَردِّ الباطل ودَحْضهِ، فَيُؤدِّي الْمُفْروضَ عليهِ بتجرُّدٍ تامٍّ لله جلَّ وعلاَ، قَالَ العلاَّمة السجزيُّ في (الرَّد عَلى مَنْ أنكر الحرف والصَّوت)(ص 235):" قَالَ الحسن: المؤمنُ ينشرُ حِكْمَة الله، فإنْ قُبِلتْ منْه حَمِد الله، وإنْ رُدَّت حَمِدَ الله.
- قَال السِّجزيُّ معلِّقاً- وَمَوضِعُ الْحَمدِ فِي الرَّدِّ أنَّهُ قَدْ وفِّق لأدَاءِ مَا عَليهِ".

لذَا فَأهلُ السُّنَّة سَمْتُهم وَ سِيْمَاهُم أَبداً ( لُزُومُ الْحَقِّ، وَ اتِّباعُهُ )، فِي كلِّ شأنٍ مِنْ شُؤون أُمُورهم، ومنْها الرَّد عَلَى الْمُخَالِفِ، وَلا حَاجة فِي رَدِّ بَاطلهِ بِبَاطلٍ آخر، وقَد سَبق نَقْلُ تَحذيرُ بَعض الأئمَّة مِنْ ردِّ البَاطلِ بباطلٍ؛ كَالإمام الآجري وكذَا الإمام ابن بطة العكبري حيثُ قالَ مُحذِّراً مِنْ ( إِرَادَة الْحقِّ مِنْ غَير طَريق السُّنَّة فإنَّه باطلٌ، وكَلامك عَلى السُّنَّةِ مِنْ غَيرِ السُّنَّة بِدْعةٌ).
وقَال الإمامُ البربهاري في (شَرح السُّنة)(رقم 157/119):" و لاَ تَطْلُب مِنْ عِنْدكَ حيلةً ترُدُّ بها علَى أَهْلِ البِدَعِ..".
وقيلَ للإمام عبدالرَّحمن بْن مَهدي:" إنَّ فُلاناً صنَّفَ كِتَاباً يَردُّ فيه على الْمُتْبَدعة.
قالَ: بِأَيِّ شَيءٍ؟ بالكتَابِ وَالسُّنَّةِ؟ قَالَ: لاَ، لَكِنْ بِعِلْمِ الْمَعْقُول وَالنَّظرِ.
فَقَال: أَخْطأَ السُّنَّةَ، وَرَدَّ بِدْعَةً بِبِدْعَةٍ" (صون المنطق)(ص 131).

وقَالَ شيخ الإسلام ابن تيمية كما في (مجموع الفتاوى)(3/322):"..وإذَا عُرفَ هَذا فَإِطْلاَقُ القَول: بِتَكْليفِ مَا لاَ يُطَاق، مِنَ البِدَعِ الْحَادِثَةِ فِي الإسْلاَمِ؛ كَإطلاقِ القَول: بأنَّ النَّاسَ مَجْبُورون علَى أَفْعَالِهم، وقَدْ اتَّفقَ سَلَفُ الأُمَّةِ وَأئمَّتُها عَلى إنْكَارِ ذَلكَ، وَذَمِّ مَنْ يُطْلقهُ وَ إنْ قَصَدَ بِه الرَّدَّ عَلَى (القَدريَّة)، الَّذين لاَ يُقرُّونَ بأنَّ الله تَعالَى خَالق أَفْعالِ العِبَادِ، وَلاَ بِأنَّه شَاءَ الكَائِنَات، وَقَالوا: هَذَا ردَّ بِدْعَةً بِبِدْعَةٍ، وَقَابلَ الفَاسِدَ بِالفَاسِدِ، وَالبَاطِلَ بِالبَاطِلِ..".

لذَا كانَ يَقُولُ شَيْخُ الإسلام ابن تيميَّة :" أنَا أَلْتَزِمُ أنَّه لا يَحْتج مُبْطِلٌ بآيةٍ أَوْ حَدِيثٍ صَحِيحٍ عَلَى بَاطِلِه إلاَّ وَ فِي نَفْسِ ذَلِكَ الدَّليلِ مَا يَدلُّ عَلى نَقِيْضِ قَولهِ" (نقله ابن القيم) في (حادي الأرواح)(ص 202).

وقَالَ الإمامُ عُثمان بن سعيد الدارمي في (الرَّدِّ عَلى الجهميَّة) (ص 186) :"..لكنَّا نُكَفِّرُهُم بِمَا تَأوَّلْنَا فِيْهم مِنْ كتَابِ الله عزَّ وجلَّ، و روينا فيْهم مِنَ السُّنَّةِ، وَبِمَا حَكيْنَا عَنْهُم مِنَ الكُفْر الوَاضحِ الْمَشْهُورِ الَّذي يَعقلهُ أَكْثَر العَوامِّ، وَ بَما ضَاهوا مُشْركي الأُمَم قَبْلَهم بِقَولهمْ فِي القُرآن، فَضْلاً عَلى مَا رَدُّوا عَلى الله وَرَسُولهِ، مِنْ تَعْطيلِ صِفَاتهِ، وَإنْكَارِ وَحْدَانيَّتهِ، وَمَعْرفَةِ مَكانِهِ، وَاسْتِوائهِ عَلَى عَرْشِهِ بِتَأويلِ ضَلالٍ، بِهِ هَتَكَ اللهُ سِتْرَهم، وأبدَ سَوءتَهم، وعَبَّرَ عَنْ ضَمَائِرهمْ، كُلَّما أَرَادُوا بِهِ احْتِجَاجَاً، ازْدَادتْ مَذَاهبهم اعْوِجَاجَاً، وَازْدَادَ أَهْلُ السُّنَّةِ بِمُخَالَفَتِهم ابْتِهَاجَاً، وَلِمَا يُخْفُونَ مِنْ خَفَايا زَنْدَقَتِهمْ اسْتِخْرَاجاً".

وقالَ شيخُ الإسلامِ ابن تيميَّة أيضاً كما في (مجموع الفتاوى)(6/288):" فَصْلٌ: فيه قَاعِدةٌ شَرِيْفَةٌ، وَهي:
أنَّ جَميعَ مَا يَحْتَجُّ بِهِ الْمُبْطِل مِنَ الأدلَّةِ الشَّرعيَّة وَالعَقليَّة إنَّمَا تَدُلُّ عَلَى الْحَقِّ، لاَ تَدلّ عَلَى قَولِ الْمُبْطِلِ، وَهَذا ظَاهرٌ يَعْرفه كُل أَحدٍ؛ فإنَّ الدَّليلَ الصَّحِيْح لاَ يَدلُّ إلاَّ عَلَى حَقٍّ، لاَ عَلَى بَاطلٍ.
يَبْقَى الكَلاَم فِي أعْيَانِ الأدلَّةِ، وَبَيانِ انْتِقَاءِ دِلاَلتِهَا عَلَى البَاطِلِ، وَدلالتهَا عَلَى الْحَقِّ؛ هُو تَفْصيلُ هَذا الإجْمَال.
وَالمقصودُ هُنا شيءٌ آخر، وهُو: أنَّ نَفْس الدَّليلِ الَّذي يَحْتَجُّ بِهِ الْمُبْطل، هُو بعينهِ إذَا أُعطي حقَّه، وَ تَمَيَّز مَا فيهِ مِنْ حَقٍّ وَ بَاطلٍ، وَبَيْنَ مَا يَدلُّ عَليهِ، وَتَبْيِن أنَّه يَدلُّ عَلَى فَسادِ قَول الْمُبْطِلِ الْمُحَتجّ بِهِ فِي نَفْس مَا احْتَج بهِ عَليهِ، وَهَذا عجيبٌ، قَد تَأمْلتُه فِيْمَا شَاء اللهُ مِنَ الأدلَّة السَّمْعية فَوجَدتُه كَذَلك".

وقالَ أيضاً في (درء تعارض العقل والنقل)(7/182):"... وأهلُ الكلام الَّذين ذَمَّهُم السَّلف لاَ يَخْلُو كَلام أَحَدٍ مِنْهُم عَلَى مُخَالَفَةِ السُّنَّةِ وَ رَدِّ بَعْض مَا أَخْبَر بهِ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم، كَالْجَهْميَّة وَ الْمُشبِّهة وَالْخَوارِج وَ الرَّوَافضِ وَالقَدَريَّة وَالْمُرْجئَةِ.
وَيُقالُ: بِأَنَّه لاَ بُدَّ أَنْ تُحْرَسَ السُّنَّةُ بالْحَقِّ وَالصِّدْقِ وَالعَدْلِ، كَمَا لا تُحْرسُ بِكَذبٍ وَلاَ ظُلْمٍ، فَإذَا رَدَّ الإنْسَانُ بَاطلاً بِبَاطِلٍ، وَقَابَلَ بِدْعَةً بِبِدْعَةٍ كَانَ هَذَا مِمَّا ذَمَّهُ السَّلف وَالأئمَّة".
وفَّق الله الجميع لما يُحبُّه ويرضاه، وصلى الله على نبيِّنا محمَّدٍ وآله وصحبه وسلَّم.
يتبع بحول الله تعالى

وكتب
عبدالله بن عبدالرحيم البخاري- كان الله له-
الأربعاء/ 23/ صفر/ 1430هـ

أبو عبد الرحمان بحوص
08-02-2010, 10:19 AM
بسم الله الرَّحمن الرَّحيم
الحمدُ لله ربِّ العالمين والصَّلاة والسَّلام على نبيِّنا محمَّدٍ وآله وصحبه أجمعين،وبعد:
فهذه هي النقطة الخامسة، وهي متعلِّقة بذكر بعض ثمرات الرَّدِّ على المخالفِ،رأيت جعلها في حلقتين؛ مراعاةً لحال الإخوة القرَّاء، استيعاباً و إدْرَاكاً، فالله أسألُ التَّوفيق والسَّداد للجيمعِ في الدَّارين إنَّه سميعٌ مجيبٌ.
فأقولُ مستعيناً بالله العليِّ المتعال:

الخامسة: ذكرُ جملةٍ من ثمار الرَّدِّ علَى المُخَالِفِ.

بدايةً أقول: إنَّك إذَا مَا فتحتَ كتَاباً في ( الرَّدِّ عَلى نِحْلَةٍ مُخَالِفَةٍ) أو ( أَحْدِ الْمُخَالِفينَ ) أو (قَولٍ مُخالفٍ للدَّليل) ألَّفَه أَحَدُ أَئمَّةِ الدِّين، خُذْ مَثلاً: الإمام عُثمان بن سعيد الدَّارمي، وكتابهُ (الرَّد على الجهميَّة)، وَ شَيخ الإسْلام ابن تيميَّة، وَ كتَابه (الرَّد على البَكْري) مثلاً أو غيره، أوْ تَحذيرِ الإمام عبدالعزيز بن باز مِنْ مُخْتَصرات (الصَّابوني) أو ردِّه علَى غَيرهِ، أو ردِّ الإمَام الألباني عَلَى (حسَّان عبدالمنان) أوْ ردِّ العلاَّمة حُمود التويجري على جماعة التَّبليغ في (القَول البليغ)، أو ردِّ العلاَّمة ربيع بن هَادي علَى (عبدالرحمن عبدالخالق) في (النَّصر العزيز)، أو غَيرهَا كثير مِنْ كُتُب عُلَمَاء الأُمَّة السَّابقين وَ اللاحِقين، مَاذَا سَتَجدُ فِي دَاخِلِ هَذَه الكُتُب؟.

الجوابُ اختصره لك بأنْ أَقُول:

سَتَجِدُ جُملةً منَ الفَوائَدِ وَالثَّمَرَات، وأَسْتَخْلِصُها لكَ بِمَا يَلِي:

1/ إِظْهَارُ الْحَقِّ وَتَقريرُهُ وَإيْضَاحُهُ، بِأَدلَّتهِ مِنَ الوَحْيَينِ بِنَاءً علَى فَهْمِ سَلَفِ الأُمَّة الصَّالِحِ.

2/ كَشْفُ الشُّبْهَة وَبَيان زَيْفها وَبُطْلاَنها، كَيْلاَ يَقعَ أَتْبَاع الْحَقِّ في التَّشكيك في الْحَقِّ الذي هُم عليهِ.

3/ القِيَامُ بِوَاجبِ النَّصيحةِ للهِ وَلِكَتابهِ وَ لِرَسُولهِ  وَلعَامَّة الْمُسْلمين.

4/ تَحْقِيْقُ شَعِيْرةِ الأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَنِ الْمُنْكَرِ، وَالقِيَام بِالفَرْض الكِفَائِي.

5/ مَحْقُّ البَاطلِ وَتَعْرِيَتُهُ، مَعَ كَسْرِ الْمُبْطِلِ الْمُعَانِدِ للحقِّ وَتَعْرِيتهُ، لِيَكْتَفِ النَّاس شَرَّه وَأَذَاهُ، وَلاَ يَغْترّ بهِ أَحَدٌ مِنَ الْخَلْقِ.

6/ تَثبيتُ الْمُؤْمنينَ عَلَى مَا هُمْ عَليهِ مِنَ الْحَقِّ وَالْهُدَى.

7/ الْحِرْصُ عَلَى هِدَايَةِ الْمُسْتَرشِدِ إنْ كَانَ طَالِباً لِلْحَقِّ بَاحِثَاً عَنْهُ.

إذاً هَذهِ هَي جُمْلَةٌ مِنَ الثَّمراتِ فِي مَسْأَلَةِ ( الرَّدِّ عَلَى الْمُخَالِفِ وَالْمُخَالَفَةِ)، وَهِيَ فَوائدُ سَنِيَّةٌ سُنِّيَّةٌ، تَتَحقَّقُ مِنْهَا مَقاصد شَرعيَّة عَظِيمة، وَفوائد مُبَاركة تُفيدُ العِبَادَ وَالبِلاَدَ بإذنِ الله، وقد تَجتَمعُ هذه الثِّمار فِي رَدٍّ عَلَى مُخَالِفٍ مُبْتَدِعٍ، وقَدْ يَتَخَلَّف بَعضها فِي ردٍّ عَلَى مُخَالِفٍ سُنِّي غَير مُعَانِدٍ وَلاَ مُكَابِرٍ، لَهُ قَولٌ خَالَفَ فِيه الْحَقّ.

وَفيْمَا يَلي أَعْرِضُ كُلَّ فَائِدةٍ مِمَّا تَقدَّمت مُدَّعَمَةً بِأَقْوَالِ أهْلِ العِلْمِ تَحْتَهَا، لِتَظْهَرَ الفَائِدَةُ أَكْثَر وَ تَتَأَصَّل الْمَسْأَلَة بِشَكلٍ أَقْعَد، وَ اللهَ أسألُ التَّوفيق والسَّداد.

الفَائدةُ الأُولى: إِظْهَارُ الْحَقِّ وَتَقريرُهُ وَإيْضَاحُهُ، بِأَدلَّتهِ مِنَ الوَحْيَينِ بِنَاءً علَى فَهْمِ سَلَفِ الأُمَّة الصَّالِحِ.

هَذه الفائدةُ ظاهرةٌ في كُتبِ أَهْلِ العِلْمِ عُمُوماً، و التي مِنْهَا كُتُبُ الرَّدودِ عَلَى الْمُخَالِفين؛ لأنَّ بيانَ الحقِّ وعَدَمَ كَتْمهِ مِيْثَاقٌ أَخَذَهُ الله عزَّ وجلَّ عَلى أهلِ العِلْم، وتَوَعَّد مَنْ كَتَمَهُ، وهي مُهمَّتُهم، قَالَ تَعالى: ( وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ) (آل عمران:187)، قَالَ الحافظُ ابنُ كثيرٍ في (تفسيره)(1/446):"...وفي هذا تحذيرٌ للعلماء أن يسلكوا مسلكهم فيصيبهم ما أصابهم،ويسلك بهم مسلكهم، فعلى العلماء أن يبذلوا ما بأيديهم من العلم النافع، الدال على العمل الصالح، و لا يكتموا منه شيئاً..".

وقَال سُبحانه: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاعِنُونَ) (البقرة:159).
قال الإمامُ ابنُ كثير في (تفسيره)(1/206):" هَذا وعيدٌ شديدٌ لِمَنْ كَتَمَ مَا جاءتْ به الرُّسُل من الدّلاَلات البيِّنة عَلَى الْمَقاصدِ الصَّحِيحة وَالْهُدى النَّافع للقُلوب مِنْ بَعد مَا بَيَّنَه الله تعالى لِعِبادهِ فِي كُتُبه الَّتي أنْزَلها عَلى رُسله".

أ/ قَالَ الإمامُ الدَّارميُّ في (الرَّدِّ على الجهميَّة)(ص 18-19):" فحينَ رَأيْنَا ذَلِكَ مِنْهُم، وَفطنَّا لِمَذْهَبهم، وَمَا يَقْصِدُون إليهِ مِنَ الكُفْرِ وَإبْطَالِ الكُتُبِ وَالرُّسل، وَ نَفْي الكَلامِ وَالعِلْمِ وَالأَمْرِ عَنِ الله تَعالى، رَأيْنَا أنْ نُبيِّنَ مِنْ مَذَاهِبهمْ رُسُوماً مِنَ الكتَابِ وَالسُّنَّةِ وَكَلاَمِ العُلَمَاء، مَا يَسْتَدلُّ بِهِ أَهْل الغَفْلَةِ مِنَ النَّاسِ عَلَى سُوءِ مَذْهَبهم؛ فَيَحْذَروهُم عَلَى أَنْفُسهمْ وَعَلى أَوْلاَدِهم وَأَهْلِيهمْ، وَيَجْتَهِدُوا فِي الرَّدِّ عَليهمْ، مُحْتَسِبينَ مُنَافِحينَ عَنْ دِيْنِ الله تَعالَى، طَالِبينَ بِه مَا عِنْدَ الله.
وقَدْ كَانَ مَنْ مَضَى مِنَ السَّلفِ يَكْرَهُون الْخَوضَ فِي هَذا وَمَا أَشْبَههُ، وَقَدْ كَانوا رُزقُوا العَافيةَ مِنْهُمْ، وَ ابْتُلِيْنَا بِهمْ عِنْدَ دُرُوسِ الإسْلاَمِ، وَذَهَابِ العُلَماءِ، فَلَمْ نَجِد بُدَّاً مِنْ أنْ نَردَّ مَا أَتَوا بِهِ مِنَ البَاطِلِ بِالْحَقِّ، وَقَد كَانَ رَسُولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم يَتَخوَّفُ مَا أَشْبَه هَذا علَى أُمَّتهِ، وَيُحَذِّرهم إيَّاهُم، ثُمَّ الصَّحابَة بَعده والتَّابِعُون...".

ب/ قَالَ الإمامُ شيخُ الإسلام ابن تيميَّة كمَا في (مَجموع الفتاوى)(9/233):"..والمقصودُ: أنَّ هَذهِ الأُمَّة ولله الْحَمْدُ لَم يَزل فيْهَا مَنْ يَتَفطَّنُ لِمَا فِي كَلامِ أهْلِ البَاطلِ مِنَ البَاطِلِ وَ يَردّهُ، وَهُمْ لِمَا هَداهم اللهُ به يَتَوافَقُونَ فِي قَبُولِ الْحَقِّ، وَ ردِّ البَاطِلِ رَأياً وَ رِوَايةً مِنْ غَيْر تَشَاعرٍ وَلا تَواطؤٍ".

وقالَ أيضاً كمَا في (ردِّه على البكري)(1/218- 219):" والْمُؤمنُ الْمُحْسنُ المتَّبعُ لسنَّةِ رَسُول الله صلَّى الله عليه وسلَّم لاَ يَأْمرُ أحداً بأمرٍ لِمُجرَّد غَرضهِ... و لا يسألُ أحداً شيئاً، بل إذَا أمرَ أحداً بأمرٍ كانَ مَقْصُودهُ بذلكَ انْتَفاع الْمَأْمُور وَحُصول مَصْلحتهِ، وَلَهُ أَجْرُ النَّاصحِ الدَّالِ عَلى الْخَير الدَّاعي إلَى الْهُدَى، فَيَكونُ لَهُ مِثل أَجْر العَاملِ الْمَأْمُورِ مِنْ غَيرِ أنْ يَنْقص مِنْ أَجْرِ العَامِلِ شَيء...فَالمؤمن المتَّبعُ للسُّنَّة يُحْسنُ إلى الْخَلقِ وَيَطْلُبُ الأجرَ مِنَ الْخَالِقِ، فَيَكون قَائماً بِحقِّ الله وحَقِّ عبَادهِ..".

وقالَ أيضاً كما في (منهاج السُّنَّة النَّبويَّة)(5/239):"...هَكَذَا الرَّدُّ عَلَى أَهْلِ البدعِ مِنَ الرَّافِضَةِ وَ غَيرِهمْ: إنْ لَمْ يَقْصُد فيهِ بَيان الْحَقِّ وهَدي الْخَلْق وَرَحمتهم والإحسان إليهم، لَمْ يكن عمله صالِحَاً".

ج/ قال الإمامُ الهمام ابنُ القيِّم في مقدِّمة كتابه العظيم (هداية الحيارى)(ص 39):"... وضمَّنْتُهُ أجَوبةَ الْمَسائلِ وَتَقرير نُبوَّة مُحمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم، بِجَميعِ أَنْواع الدَّلائلِ، فَجَاء بِحَمدِ الله و منِّه وتَوفيقهِ كِتَاباً مُمْتِعاً معْجباً، لاَ يَسْأمُ قَاريه، وَلاَ يَمَلُّ النَّاظرُ فيهِ...يُعطيكَ مَا شئتَ منْ أعْلاَم النُّبوَّةِ وَ بَراهين الرِّسَالَةِ، وَبِشَاراتِ الأنْبِياء بِخَاتمهم، واسْتِخْرَاج اسْمهِ الصَّريح مِنْ كُتُبهم، وذِكْرِ نَعْتهِ وَصفتهِ وَ سِيرتهِ مِنْ كُتُبهمْ، وَالتَّمييز بَينَ صَحيحِ الأَدْيَانِ وَ فَاسدِهَا وَكَيْفيَّة فَسَادِهَا بَعْدَ اسْتِقَامَتِها، وَ جُملة مِن فَضائح أهلِ الكِتَابَيْن وَمَا هُم عَليهِ، و أنَّهم أَعظم النَّاس بَراءةً مِنْ أنْبِيَائهم، وأنَّ نُصوصَ أنْبيائِهم تَشْهَدُ بِكُفْرِهِمْ وَضَلاَلِهم، وَغَيْر ذَلك مِنْ نُكَتٍ بَدِيعَةٍ لاَ تُوجَدُ فِي سِوَاهُ".

وقالَ أيضاً في كتابه النَّافع (الرَّسَالة التَّبوكية)(ص 74) في مَعْرض بَيانهِ لِمَعْنَى (أُوِلي الأَمْرِ) مِنْ آية النِّساء:"..والصَّحيحُ أنَّها مُتَناولة للصِّنفين جَميعاً؛ فَإنَّ العُلَماءَ وَالأُمَراءَ هُم وُلاَةُ الأمْرِ الَّذي بَعثَ الله به رَسولهُ.
فَالعُلَماءُ وُلاَتهُ حِفْظَاً وَبَيَانَاً وبَلاَغاً وَذبَّاً عنْهُ، وَرَدَّاً علَى مَنْ ألْحَدَ فيه وَزَاغَ عنْهُ، وَقَدْ وَكَّلهم الله بذلكَ، فقال تعالى (فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ)-(الأنعام: من الآية89)-، فَيَا لَهَا مِنْ وَكَالَةٍ أَوْجَبت طَاعَتهمْ وَالانْتِهَاء إلَى أَمْرِهم، وَكَون النَّاس تَبعاً لَهم".

الفَائدةُ الثَّانية: كَشْفُ الشُّبْهَة وَبَيان زَيْفها وَبُطْلاَنها، كَيْلاَ يَقعَ أَتْبَاع الْحَقِّ في التَّشكيك في الْحَقِّ الَّذي هُم عليهِ.

وهَذا أمرٌ ظاهرٌ أيضاً في كُتبُ الرُّدُودِ، وَ القُرآنُ الكريم والسُّنَّة النَّبوية المطهَّرة مَليئةٌ بِهَذَا النَّوعِ، قَالَ الله تعالى ( وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً) (الفرقان:33)، قالَ الحافظُ ابنُ كثير في (التفسير)(3/330):"( وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ ) أيْ: بِحُجَّةٍ وشُبهةٍ، (إِلاَّ جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً) أيْ: لا يَقُولونَ قَولاً يُعَارِضُونَ بِه الْحَقَّ إلاَّ أَجَبْنَاهُم بِمَا هُو الْحقّ فِي نَفْسِ الأمرِ وَأَبْيَن وَ أَوْضَح وَأفْصَح مِنْ مَقَالتهم".

وَ مِنَ الْمَعْلُومِ أنَّ أَهْلَ البَاطِلِ لاَ يَفْتُرُونَ مِنَ الصَّدِّ عَنِ الْحَقِّ بِكُلِّ وَسَيْلةٍ يَسْتِطيعونَها، وَمِنْ ذَلِكَ: إلْقَاءُ الشُّبه رَغْبَةً فِي زَعْزَعَةِ أهْلِ الْحَقِّ عمَّا هُمْ عَليهِ، وَصَدِّ مَنْ أَرَادَ الْحَقَّ مِنَ الوُصُول إليهِ، فَالرَّدُّ علَى تِلْكَ الشُّبَهِ مِنْ أَعْظَمِ أَنْواعِ الْجِهَادِ فِي سَبِيْلِ الله تَعالَى.

أ/ قَالَ الإمام مُحمَّدُ بْنُ يَحيى الذهلي: سمعتُ يَحيى بن معين يقولُ: " الذَّب عنِ السُّنَّةِ أفضل من الْجَهادِ فِي سبيل الله. فقلتُ ليحيى: الرَّجُلُ يُنْفِقُ مَالَهُ وَ يُتْعِبُ نَفسهُ وَ يُجَاهِدُ، فَهذَا أفضل منْه؟! قَالَ: نَعَمْ، بِكَثيرٍ" (سير أعلام النبلاء) للذهبي (10/518).

ب/ قالَ الإمام الدارمي في (الرَّدِّ علَى الجهمية)(ص 19):".. وقَدْ كَان مَنْ مَضَى مِنَ السَّلف يكرهونَ الْخَوضَ فِي هَذا ومَا أَشْبَهه، وقَد كَانُوا رُزقُوا العَافيةَ مِنْهُم، وَابْتُليْنا بِهم عِنْدَ دُرُوسِ الإسْلاَمِ، وَذَهَابِ العُلَماءِ، فَلَم نَجد بُدَّاً مِنْ أنْ نَرَدَّ مَا أَتَوا به مِنَ البَاطِلِ بِالْحَقِّ".

ج/ قالَ الإمامُ ابن بطة العكبري في (الإبانة الكبرى)(2/542):".. ورجلٌ آخر يَحْضُر فِي مَجْلسٍ أنتَ فِيه حَاضِرٌ تَأْمَنُ فيهِ عَلَى نَفْسِكَ ، وَيَكثر نَاصِرُوك وَمُعِيْنُوك، فَيتَكلَّمُ بِكَلامٍ فيهِ فِتْنة وَبَليَّة علَى قُلوبِ مُسْتَمعيه؛ ليُوقِعَ الشَّكَّ فِي القُلُوبِ، لأنَّه هُو مِمَّن فِي قَلبهِ زَيغٌ يَتَّبِعُ الْمُتَشابِه ابْتَغاءَ الفِتْنَةِ وَ البِدْعة.

وقَد حَضَر مَعكَ مِنْ إِخْوَانكَ وَأهلِ مَذْهَبكِ مَنْ يَسمعُ كَلاَمَهُ، إلاَّ أنَّهُ لاَ حُجَّةَ عِنْدَهم عَلَى مُقَابلتِهِ، وَ لاَ عِلْمَ لَهُم بِقَبيحِ مَا يَأتِي بِه؛ فَإنْ سَكَتَّ عنْهُ لَمْ تَأْمَن فِتْنَتَهُ بِأنْ يُفْسِدَ بِهَا قُلُوب الْمُسْتَمِعين، وَ إدْخَال الشَّكِّ عَلَى الْمُسْتَبصرينَ، فَهَذا أيضاً مِمَّا تَرَدُّ عَليهِ بِدْعتَهُ، وَخَبِيثَ مَقَالتهِ، وَتَنْشُرُ مَا عَلَّمَكَ اللهُ مِنَ العِلْمِ وَالْحِكْمَةَ.
وَلاَ يَكُنْ قَصْدك فِي الكَلاَم خُصَومتهُ وَلاَ مُنَاظرتهُ، وَلْيَكُن قَصْدكَ بِكَلامكَ خَلاَصَ إِخْوَانكَ مِنْ شَبَكَتهِ، فَإنَّ خُبَثَاء الْمَلاَحدةِ إنَّمَا يَبْسُطُونَ شبَاكَ الشَّيَاطين لِيَصِيْدُوا بِهَا الْمُؤْمِنين، فَلْيَكُن إقْبَالكَ بِكَلامِكَ وَنَشْرِ عِلمكَ وَحِكْمَتِكَ وَبِشْرِ وَجْهِكَ وَ فَصِيْحِ مَنْطِقكَ عَلَى إخْوانِكَ وَمَنْ قَدْ حَضَر مَعَكَ لاَ عَليهِ ، حَتَّى تَقْطَعَ أُولئِكَ عَنْهُ وَتَحولَ بَينهمْ وَبَيْنَ اسْتِمَاعِ كَلاَمهِ، بَلْ إنْ قَدرتَ أنْ تَقْطَعَ عليْهِ كَلاَمَهُ بِنَوعٍ مِنَ العِلْمِ تُحَوِّلُ بهِ وُجُوهَ النَّاسِ عَنْهُ؛ فَافْعَلْ...".
وينظر أيضاً (الإبانة الصغرى) له (ص 348).

د/ قالَ العلاَّمةُ ابنُ قُدامةَ فِي (تَحريمِ النَّظرِ فِي كُتُبِ الكَلامِ) (ص 35):" وَمَا عَادَتِي ذِكر مَعائِبِ أصْحَابِنَا، وَ إنَّنِي لأُحِبُّ سَتْرَ عَورَاتِهم، وَلكِن وَجبَ بَيان حَال هَذَا الرَّجُل حِيْنَ اغْترَّ بِمَقَالتهِ قَومٌ وَ اقْتدىَ بِبِدْعَتهِ طَائفةٌ مِنْ أصْحَابِنَا، وَشَكَّكَهُمْ فِي اعْتِقَادِهمْ حُسْنُ ظَنِّهمْ فِيْهِ، وَاعْتِقَادِهم أنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ دُعَاةِ السُّنَّةِ، فَوَجبَ حِيْنَئذٍ كَشْفُ حَالهِ، وَإِزَالَة حُسْن ظَنِّهم فيهِ؛ لِيزَوُلَ عَنْهُم اغْتِرَارهمْ بِقَولهِ، وَ يَنْحَسِمَ الدَّاء بِحَسْمِ سَبَبهِ، فَإنَّ الشَّيءَ يَزُولُ مِنْ حَيثُ ثَبتَ".
قُلتُ: يريدُ رحمه الله بالرَّجل الْمَرُدودِ عَليه: ابن عقيل الحنبلي.

وقالَ أيضاً في موضعٍ آخر (ص 68):" وأرْجُو أنْ تَكُونَ هَذه الرِّسَالة أَعْظَم الأشَياء بَرَكةً عليهِ وَنَفْعَاً لَهُ، مِنْ حَيْثُ إنَّهَا تَمْنَعُ النَّاسَ مِنَ الضَّلالِ بِكَلامهِ فَيَنْقَطِع عنْه الإثْم الَّذي كَانَ يُعرِّض الوصُول إليهِ بِضَلالِهم بِه".

هـ/ قالَ العلاَّمةُ ابْنُ البَنَّاء فِي (الْمُخْتَارِ فِي أُصُولِ السُّنَّةِ)(ص 135-136):" اعْلَمْ رَحِمَنَا الله وَ إيَّاكَ أنَّ هَذه الأَحَاديث الَّتي قَد ذَكرنَا فِي صِفَات الله تعالى، قَد ذكرها الإمام أبُو عبدالله أحمدُ بنُ مُحمَّد بن حَنْبل وَ أشباهها،ورَواهَا شُيُوخنَا، وجَمَعها شَيخنُا الإمامُ أَبُو يَعْلَى نَضَّر الله وجْهَهُ عَلى مَا سَاقها الإمام أبو عبدالله بن بطَّة، وأَوْجَبُوا كُلُّهم الإيْمَان بِها وَالتَّسليمَ ولا تُرَدُّ وَ لا تُتَأوَّل، وَكَذلك ساقهَا مُسْلمٌ فِي (صَحيحه)..وجَميع أصْحَاب الحديثِ، وإنَّما زَادَ عليهمْ شَيخنُا رحمه الله أنَّهُ ذَكَرَ أسئِلَةً اعْترضَ بها المتكلِّمون عليهاَ إمَّا لِيُبْطِلُوهَا أوْ يَتَأوَّلُوهَا، فَردَّ عَليهم ذلكَ عَلى مَا قَالهُ السَّلفُ الْمَهْديِّون وَالْخَلَف الْمَرْضِيُّونَ...وَ مَنْ كانَ قَبْلُ، فَكانَ لَهُمْ مِنْ قوَّةِ الإيْمَانِ وَصِحَّةِ الإِتْقَانِ وَالْمَعْرِفَةِ وَ البَيَانِ مَا لاَ يَحْتَاجُونَ مَعَهُ إلَى مَنْ يَتَجرَّدُ لِذَلك، فَأمَّا فِي زَمانِنَا هَذا فَالنَّاسُ بِهِم حَاجة إلَى ذَلك، فَلو لَمْ يَفْعَلْ لَكَانُوا فِي حَيْرَةٍ، وَالله يُحْسِنُ جَزاءَه، وَيَجْمع لَهُ خَير آخِرتهِ وَدُنْياهُ..".

و/ قالَ الحافظُ ابنُ عساكر في (تبين كذب المفتري)(ص 99):"..فلمَّا ظَهرت فيْمَا بَعْدُ أَقْوال أَهْل البِدَعِ، واشْتَهرت، وعَظُمت البَلْوى بِفِتْنَتِهم عَلى أهْلِ السُّنَّة وَانْتَشَرت، وانْتُدبَ لِلرَّدِّ عَليهم وَ مُنَاظَرَتِهم أئمَّة أَهْلِ السُّنَّةِ لِمَّا خَافوا علَى العَوام مِنَ الابْتِدَاعِ وَالفِتْنَةِ..خَوْفاً مِن التْبِاسِ الْحقِّ عَلَى الْخَلْقِ وَاشْتِبَاهِهِ".

ز/ قال الإمامُ ابن القيم في كتاب (التِّبيان في أقسام القُرآن)(ص 132):" القَلَمُ الثَّانِي عَشر: القَلَمُ الْجَامِع: وَ هُو قَلَمُ الرَّدِّ عَلَى الْمُبْطِلين، وَ رَفْعِ سُنَّةِ الْمُحِقِّينَ، وَ كَشْفِ أَبَاطِيْل الْمُبْطِلين، عَلى اخْتِلاَفِ أنْوَاعهَا وَ أَجْنَاسِهَا، وَ بَيان تَنَاقُضُهمْ وَ تَهَافتِهمْ، وَ خُروجهم عن الحقِّ، و دُخُولهم فِي البَاطلِ.
وَ هَذا القَلمُ فِي الأَقْلامِ نَظير الْمُلوك فِي الأنَامِ، وَ أصْحَابُهُ أهل الْحُجَّة النَّاصرونَ لِمَا جَاءت بهِ الرُّسُل، الْمُحَاربونَ لأَعْدَائِهم، و هُم الدَّاعونَ إلى الله بالْحِكْمَةِ وَ الْمَوْعِظَة الْحَسنَةِ، الْمُجَادِلُونَ لِمنَ خَرجَ عَنْ سَبيلهِ بِأَنْواعِ الْجِدَالِ، وَ أصحابُ هَذا القَلَمِ حَربٌ لِكُلِّ مُبْطِلٍ، وَ عَدوٌ لِكُلِّ مُخَالِفٍ لِلرُّسِلِ، فَهُم فِي شَأْنٍ وَ غَيرهُم مِنْ أصْحَابِ الأَقْلاَمِ فِي شَأنٍ".

ح/ قَالَ العلاَّمةُ ابنُ النَّجار في (شَرْح الكوكب المنير)(4/371-372) تَحت فَصل في ( أحْكَام الجدل وآدابه..) قالَ:"... قَالَ فِي (الوَاضح): ومِنْ أَدَبِ الْجِدَال: أنْ يَجْعلَ السَّائل وَ المسؤول مَبْدأ كلاَمهما حَمْد الله تعالى، والثَّناء عليه...ويَجْعلا قَصْدهما أحد أَمْرين، وَيَجتَهِدا فِي اجْتِنَاب الثَّالثِ، فَأعلى الثَّلاثة مِنَ الْمَقاصدِ: نُصْرَةُ الْحقِّ بِبَيَانِ الْحُجَّةِ، وَدَحض البَاطلِ بِإبْطَالِ الشُّبهة؛ لِتَكُونَ كَلمَةُ الله هِي العُليا..".

الفائدةُ الثَّالثة: القِيَامُ بِوَاجبِ النَّصيحةِ للهِ وَلِكَتابهِ وَ لِرَسُولهِ  وَلعَامَّة الْمُسْلمين.
أخرجَ الإمامُ مُسْلمٌ فِي (الصَّحيح) -(1/رقم 55- ط عبدالباقي) حَديث تَميمٍ الدَّاري رضي الله عنه أنَّ النَّبي صلَّى الله عليه وسلَّم قال: (الدِّينُ النَّصيحة ثَلاثاً. قُلْنَا: لِمَنْ يَا رَسُولَ الله؟ قَالَ: للهِ وَلِكتَابهِ وَ لِرَسُولهِ وَلأئمَّةِ الْمُسْلِمينَ وَعَامَّتهم).

قَالَ الإمامُ ابنُ رجبٍ الحنبلي في (جامع العلوم و الحكم)(1/223):"..ومنْ أنْواعِ النُّصح لله تعالى وكتَابهِ وَرَسولهِ، وهُو مِمَا يَخْتصُّ بِه العُلماء:
رَدُّ الأهْواء الْمُضلَّة بالكتَابِ وَالسُّنَّةِ، وبيانُ دلالتهما على ما يُخالف الأهواء كلَّها.
وكذَلكَ رَدُّ الأقْوال الضَّعيفة مِنْ زَلاَّتِ العُلُمَاءِ، وبيانُ دِلاَلَة الكتَابِ وَالسُّنَّة عَلَى ردِّها.
ومِنْ ذَلكَ بَيان مَا صَحَّ مِنْ حَديثِ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، وَما لَمْ يَصح منْهُ؛ بِتَبْيينِ حَالِ رُواتِهِ، وَمَنْ تُقْبلُ رِوَاياتهُ مِنْهُمْ وَمَنْ لاَ تُقْبَلُ، وَبَيان غَلَط مَنْ غَلط مِنْ ثِقَاتِهم الَّذين تُقْبَل رِوَايَتهمْ.."، ومِمَّا يُظْهِرُ قِيَامَ أهل العلم بذلكَ:

أ/ أخرجَ اللالكائي في (شرح أصول اعتقاد أهل السُّنَّة)(1/رقم 256) عن الحافظِ قتَادة بن دِعامة السَّدوسي أنَّه قالَ:" إنَّ الرَّجلَ إذا ابتدعَ بدعةً ينبغي لها أنْ تُذْكر حتى تُحْذر".

ب/ جاءَ في ترجمة (الحسن بن صالح بن حي الكوفي (ت 196هـ) مِنْ (سير أعلام النبلاء) (7/361): (قالَ أبو صالح الفَرَّاء: حكيتُ ليوسف بن أسباط عن وكيع شيئاً مِنْ أَمْر الفِتَنِ، فَقالَ: ذاكَ يُشْبه أُسْتَاذه، يعني الحسن بن حي، فقلتُ ليوسف: أَمَا تَخافُ أنْ تَكون هَذه غيبة؟ فقال: لِمَ يَا أَحْمَق؟ أنَا خيرٌ لهؤلاء مِنْ آبائهم وأُمَّهَاتِهم، أنَا أَنْهَى النَّاس أنْ يَعْمَلُوا بِمَا أَحْدَثُوا، فَتتبعهم أَوْزَارهم، وَمَنْ أَطْرَاهُم كانَ أَضرَّ عَليهم".

ج/ وَقالَ شيخ الإسلام ابن تيمية كما في (المجموع)(28/231-232):" ومثل أئمَّة البِدَعِ مِنْ أهل المقالات المخالفةِ للكتاب والسُّنَّة، أو العِبَادات المخالفة للكتِابِ وَالسُّنَّة، فإنَّ بَيانَ حَالهم، وتَحذيرَ الأُمَّةِ مِنْهُم، واجبٌ باتِّفاق المسلمين، حَتَّى قيل لأحمد بن حنبل: الرَّجل يَصُوم وَ يُصلِّي ويعتكفُ أحب إليك أو يتكلَّم في أهل البدعِ؟ فقال: إذا قَام وصلَّى واعتكفَ فإنَّما هو لنفسهِ، وإذا تكلَّم في أهلِ البدعِ فإنَّما هو للمسلمين، هذا أفضل.
فبيَّن أَنَّ نَفْعَ هَذا عامٌّ للمسلمين فِي دِينهم، مِنْ جِنْسِ الْجِهَادِ فِي سَبيل الله؛ إذْ تَطْهِيرُ سَبِيْل الله وَ دِيْنهِ وَ مِنْهَاجهِ وَشِرْعَتهِ، ودفع بغي هَؤلاء وعُدوانهم علَى ذَلك، وَاجبٌ علَى الكِفَايَةِ باتِّفاقِ المسلمينَ، ولَولا مَنْ يُقِيْمهُ الله لدَفْعِ ضَرَرِ هَؤلاء لَفَسَدَ الدِّين، وكانَ فَسَادُهُ أَعظم مِنْ فَسادِ اسْتِيْلاءِ العَدوِّ مِنْ أَهْلِ الْحَربِ؛ فإنَّ هَؤلاء إذَا اسْتَولوا لَمْ يُفْسِدُوا القُلُوبَ وَمَا فيها مِنَ الدِّينِ إلاَّ تَبَعاً، وأمَّا أُولئكَ فَهُمْ يُفْسِدُونَ القُلُوبَ ابْتِدَاءً" انتهى كلامه.

د/ وقالَ الإمامُ ابنُ القيِّم في (مدارج السَّالكين)(1/372):" واشْتدَّ نكيرُ السَّلفِ والأئمَّة لَهَا- أي البدعة-،وصَاحوا بأهلهَا مِنْ أَقطار الأرضِ، وحَذَّروا فِتْنَتَهُمْ أَشدَّ التَّحذير، وبَالغوا في ذلك ما لَمْ يُبَالِغُوا مثله فِي إنكار الفَواحشِ، وَالظُّلم، والعُدوان؛ إذْ مَضرَّةُ البِدَعِ، وَهَدْمِهَا للدِّينِ، وَمنافاتها لَه أَشدّ".

هـ/ عَقدَ العلاَّمة ابنُ مفلح في (الآداب الشَّرعية)(1/230) فَصْلاً فقَالَ:" فَصْلٌ: في وُجُوبِ إبْطَالِ البِدَعِ الْمُضِلَّةِ، وَإقَامَةِ الْحُجَّة عَلى بُطْلانِهَا".
ثُم قالَ:" قالَ في (نِهَاية المبتدئين): ويَجِبُ إنكارُ البدعِ المضلَّة، وإقامة الحجَّة على إبطالها، سواءٌ قَبِلَها قائلها أو ردَّها، ومَنْ قَدر على إنهاءِ المنكر إلى السُّلطان أنهاهُ، وإنْ خَافَ فوتهُ قبل إنهائهِ أنكرهُ هُو".

الفائدةُ الرَّابِعَةُ: تَحْقِيْقُ شَعِيْرةِ الأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَنِ الْمُنْكَرِ، وَالقِيَام بِالفَرْض الكِفَائِي.
أ/ قَالَ الله تعالى: ( لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ. كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ) (المائدة:78-79).
قَالَ العَلاَّمةُ الشَّوكانِيُّ في (فَتْحِ القَدير)(2/65) :" الَّلعنُ بِسَببِ الْمَعْصِيَةِ وَ الاعتداءِ لا بِسببٍ آخَر ، ثُمَّ بَيَّن سُبْحَانه الْمَعْصِيَةَ وَ الاعتِدَاءَ بقولهِ ( كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ) ، فَأَسندَ الفِعلَ إليهم؛ لِكَونِ فَاعلهِ مِنْ جُمْلَتِهمْ وَ إنْ لَمْ يَفْعلوهُ جَميعاً.
والمعنى : أنَّهم كَانُوا لا يَنْهَونَ العَاصي عَنْ مُعَاودَةِ مَعصيةٍ قَد فَعلها، أَوْ تَهَيَّأَ لِفِعْلهَا ، وَ يحتملُ أنْ يكونَ وَصفهم بِأنَّهم قَدْ فَعَلُوا الْمُنْكَرَ بِاعتبارِ حَالةِ النُّزُولِ لاَ حَالة تَرْكِ الإنْكَارِ وَبَيان العِصيان وَ الاعتداء بِتَركِ التَّنَاهِي عَنِ الْمُنْكَرِ؛ لأنَّ مَنْ أخلّ بِوَاجِبِ النَّهي عَنِ المنكرِ، فَقَدْ عَصَىَ الله سُبحانَهُ وَتعدّى حُدُودهُ .
والأمرُ بالمعروفِ والنَّهي عَن المنكرِ مِنْ أَهمّ القواعدِ الإسلاميَّة، وأَجلّ الفَرائض الشَّرعيَّة ، ولِهَذا كان تَاركهُ شَريكاً لِفَاعلِ الْمَعْصِيَةِ، ومُسْتَحقاً لغضبِ الله وانْتِقَامهِ كمَا وَقع لأهلِ السَّبْتِ .... ثُمّ إنَّ الله سُبحانه قَالَ مُقَبِّحَاً لِعَدمِ التَّناهي عَنِ المنْكَرِ ( لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ )؛ أي: مِنْ تَرْكِهم لإنْكارِ مَا يَجبُ عَليهم إِنْكَارُهُ".

ب/ وَ قالَ تَعالى: (لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الإِثْم وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ) (المائدة:63).
قَالَ العلاَّمة الشَّوكاني في (فتحِ القَدير) (2/55):" فوبَّخَ سُبحانهُ الْخَاصَّة؛ وهُم العُلمَاء التَّارِكُونَ للأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهي عَنِ الْمُنْكَرِ، بِمَا هُو أَغْلَظ وَأشدّ مِنْ تَوبيخِ فَاعِلِ الْمَعَاصِي، فَليفَتْح العُلماء لِهَذه الآية مَسَامعهم، وَ يفْرجوا لَها عن قُلوبهم، فَإنَّها قَدْ جَاءَتْ بِمَا فيهِ البَيان الشَّافي لَهُمْ، بِأَنَّ كفَّهم عَن المعاصي ، مَع تَرْكِ إنكارهمْ عَلى أهلها لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ، بَلْ هُم أَشدّ حَالاً وَأَعظم وَبالاً مِنَ العُصَاة، فَرحمَ الله عَالماً قامَ بِما أوجبهُ الله عليهِ مِنْ فَريضةِ الأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَ النَّهيِّ عَن الْمُنكر ، فهو أعظم ما افترضه الله عليه وأوجب ما أوجب عليه النهوض به . اللهم اجْعَلنا مِنْ عِبادك الصَّالحين الآمرين بِالمعروف النَّاهين عن الْمُنْكَر الذين لا يَخافونَ فيكَ لومة لائم ، وأعنَّا على ذلك، وَقَوّنا عليه، ويسِّره لنَا ، وانْصرنَا عَلى مَنْ تَعدَّى حُدودك ، وظَلَمَ عبَادك، إنَّهُ لا نَاصر لنا سِوَاكَ ، ولا مُسْتَعان غيرك ، يا مَالكَ يَوم الدِّين ، إيَّاكَ نَعْبُدُ ، وَ إيَّاكَ نَسْتعين".

ج/ قالَ الإمامُ عثمان بن سعيد الدارمي في (الرَّدِّ عَلَى الْجَهْميَّة)(ص18/ رقم 15):"..فَحِينَ رأيْنَا ذَلكَ مِنْهُم، وفَطنَّا لِمَذْهَبهم، ومَا يَقْصِدُونَ إليه مِنَ الكُفر وإبطالِ الكتُب والرُّسل، ونَفي الكَلام والعِلْم والأَمْر عَن الله تعالى، رأَيْنَا أنْ نُبيِّن مِنْ مَذَاهِبهم رُسُومَاً مِنَ الكتَابِ وَالسُّنَّة وَ كلاَمِ العُلماءِ، ما يَسْتدلُّ بهِ أَهْل الغَفْلَةِ منَ النَّاسِ علَى سُوءِ مذْهَبهم، فَيَحْذَرُوهُم عَلَى أَنْفُسِهم وَعَلى أَوْلاَدِهم وَأَهْلِيهم، وَيَجْتَهدونَ في الرَّدِّ عليهم، مُحْتَسِبينَ مُنَافِحينَ عَنْ دِيْنِ الله تعالَى، طَالِبِينَ بِه مَا عنْدَ الله".

د/ قالَ الإمامُ شيخ الإسلام ابن تيمية في (الرَّدِّ عَلَى الإخْنَائي)(ص 474-475):" الوجْهُ الثَّانِي عَشر: أنْ يُقَالَ: لاَ رَيْبَ أنَّ الْجِهَادَ وَالقِيَامَ عَلَى مَنْ خَالَفَ الرُّسل، وَالقَصد بِسَيْفِ الشَّرع إليْهم، وَإقَامَة مَا يَجِبُ بِسببِ أَقْوالهم، نُصرةً للأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلينَ، وَليكونَ عِبْرَةً لِلْمُعْتَبِريْنَ؛ لِيَرْتَدِعَ بِذَلكَ أَمْثَالهمْ مِنَ الْمُتَمَرِّدِينَ، مِنْ أَفْضَلِ الأَعْمَالِ الَّتي أَمَرنَا الله أنَّ نَتَقرَّبَ بِهَا إليْهِ، وَذَلكَ قَدْ يَكُونُ فَرْضَاً عَلَى الكفَايَةِ، وَقَدْ يَتَعيَّنُ عَلَى مَنْ عَلِمَ أنَّ غَيْرَهُ لاَ يَقُومُ بهِ.

والكتَابُ وَالسُّنَّةِ مَمْلُوءَانِ بِالأَمْرِ بِالْجِهَادِ وَذِكْرِ فَضِيْلَتهِ، لكنْ يَجبُ أَنْ يُعْرفَ أنَّ الْجَهِادَ الشَّرعيّ الَّذي أَمَرَ اللهُ بِه وَرَسولُهُ مِنَ الْجِهَادِ البِدْعِيّ، جِهَاد أهْلِ الضَّلاَلِ الَّذين يُجَاهِدونَ فِي طَاعةِ الشَّيْطَان، وَهُمْ يَظنُّونَ أَنَّهُم مُجَاهِدُونَ فِي طَاعَةِ الرَّحْمَن.
كَجَهِادِ أَهْلِ البِدَعِ وَالأهْواءِ كَالْخَوارجِ وَنَحْوهِم الَّذين يُجَاهِدُونَ أهْلَ الإسْلاَمِ، وَفِيْمن هُو أَوْلَى بالله وَرَسُوله مِنْهُم مِنَ السَّابِقينَ الأَوَّلِين مِنَ الْمُهَاجِرينَ وَالأنْصَار وَالَّذين اتَّبَعُوهم بِإحْسَانٍ إلَى يَومِ الدِّين..".

د/ قَالَ الإمامُ ابن القيِّم في (الصَّواعق المرسلة)(1/301-302):" فكشفُ عَوراتِ هَؤُلاء وَبَيانُ فَضَائِحهمْ، وفَسَاد قَواعدهمْ، مِنْ أفْضَلِ الْجِهَادِ فِي سَبيلِ الله، وقدْ قَالَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لِحَسَّان بن ثابت: إنَّ روحَ القُدُسِ مَعَك مَا دُمْتَ تُنَافِحُ عَنْ رَسُولهِ، وَقَال (اهْجُهُمْ أوْ هَاجِمْهُمْ، وَجِبْريلُ مَعَك)، وقالَ (اللهمَّ أيِّدهُ بِرُوحِ القُدُسِ مَا دامَ يُنَافِحُ عَن رَسُولكَ)، وقالَ عَن هِجَائهِ لَهُم (والَّذي نَفسي بيدهِ لَهُو أشَدُّ فِيْهم مِنَ النَّبْلِ)، وكيفَ لاَ يَكُون بَيان ذَلكَ مِن الْجِهَادِ فِي سَبيلِ الله، وأكْثَر هَذه التَّأويلات الْمُخَالفَةِ للسَّلف الصَّالِحِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعينَ، وَأهْلِ الْحَديثِ قَاطبة، وَأئمَّة الإسلامِ الَّذين لَهُم في الأُمَّةِ لِسَانَ صِدْقٍ، يَتَضمَّن مِن عَبَث الْمُتكلِّم بِالنُّصوصِ وَسُوء الظَّنِّ بِهَا، مِنْ جنْسِ مَا تَضمَّنُه طَعن الَّذين يلمزونَ الرَّسُول وَدينهُ وَأهْل النِّفاق وَالإلْحَاد، لِمَا فِيهِ مِنْ دَعوىَ أنَّ ظَاهرَ كَلاَمهِ إِفْكٌ، وَمُحَالٌ، وكُفْرٌ، وضَلالٌ، وتَشبيهٌ، وتمثيلٌ، أو تخييلٌ، ثُمَّ صَرْفهَا إلَى مَعَانٍ يَعْلَمُ أنَّ إرادتَها بتِلك الألفَاظِ مِنْ نَوع الأَحَاجِي وَالألْغَاز، لاَ يَصْدُر مِمَّن قَصدهُ نُصْحٌ وبيانٌ، فَالْمُدَافَعةُ عَنْ كَلامِ الله وَرَسُولهِ، وَالذَّبُّ عنْهُ مِنْ أفْضَلِ الأَعْمَالِ وَأحبِّهَا إلى اللهِ، وَ أَنْفَعِهَا للعَبْدِ".

وقالَ أيضاً في (مفتاح دار السعادة)(1/103) في وصف أهل السُّنة وجهادهم :" فكمْ مِنْ قَتِيْلٍ لإبليس قد أَحْيَوه، ومِنْ ضَالٍ جاهلٍ لا يَعْلَم طَريق رشده قَدْ هدوه، ومِنْ مُبْتَدعٍ في دينِ الله بشُهُبِ الْحقِّ قد رَموهُ، جِهَاداً في الله، وابتغاء مَرضاته..".

يُتبعُ بحول الله تعالى

وكتب
عبدالله بن عبدالرَّحيم البخاري- كان اللهُ له-
1/ ربيع الأول/ 1430هـ

أبو عبد الرحمان بحوص
08-02-2010, 10:21 AM
بسم الله الرَّحمن الرَّحيم

الحمدُ للهِ رب العالمين والصَّلاة والسَّلام على نبيِّنا محمِّدٍ وآله وصحبه وسلَّم، وبعدُ:
فهذه هي الحلقة السَّادسة والأخيرة مِنْ كتابتي في قَضِيَّة (أهميَّة الرَّدِّ على المخالِف، وبيان جملةٍ من ثمارهِ)، وهي تَتمَّة لسابقتهَا الخامسة فِي (بيان جملة من ثمار الرَّدِّ على المخالف)، فَأقولُ مستعيناً بالله العلي الأعلى:

الفائدة الخامسة: مَحْقُّ البَاطلِ وَتَعْرِيَتُهُ، مَعَ كَسْرِ الْمُبْطِلِ الْمُعَانِدِ للحقِّ وَتَعْرِيته، لِيَكْتَفِ النَّاس شَرَّه وَأَذَاهُ، وَلاَ يَغْترّ بهِ أَحَدٌ مِنَ الْخَلْقِ.
إنَّ تَطبيقَ وتَحقيقَ هَذه الفَائدة مِنَ الْمَطَالِب وَ الْمَقَاصد الشَّرعية، قال الله تعالى (وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ. لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ) (الأنفال:7-8).
قال العلاَّمة القرطبي في (الجامع لأحكام القرآن)(7/369-370) عند تفسير هذه الآية:".. (وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ) أي؛ أنْ يُظْهِرَ الإسْلاَمَ، والْحَقُّ حَقٌّ أبداً، ولكنَّ إِظْهَارهُ: تَحْقيقٌ لَهُ، مِنْ حَيثُ إنَّه إذَا لَمْ يظْهر أشْبَه البَاطِلَ، (بِكَلِمَاتهِ) أيْ؛ بِوَعْدهِ، فإنَّهُ وَعَدَ نَبيَّه ذَلكَ فِي سُورة الدخان... (وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ) أي؛ يَسْتَأصلهم بالهلاك. ( لِيُحِقَّ الْحَقَّ) أي؛ يُظْهِرَ دِيْنَ الإسْلاَمِ وَ يُعزّهُ. (وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ) أي؛ الكُفر، وإبْطَالُهُ إعْدَامُهُ، كما أنَّ إحقاق الْحَقِّ: إظْهَارهُ، (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ )، (وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ)".

أ/ قَالَ الإمامُ الدَّارميُّ في (الرَّدِّ على الجهميَّة)(ص 18-19):" فحين رأينا ذلك منهم، وفطنَّا لمذهبهم، وما يقصدونَ إليه من الكُفر وإبطالِ الكتبِ والرَّسل، ونفي الكلام والعِلْم والأمر عَن الله تعالى، رأينا أنْ نُبيِّن مِنْ مَذَاهبهم رُسُوماً منَ الكتَابِ وَالسُّنَّةِ وَكَلاَم العُلماء، مَا يَسْتَدِلُّ به أهل الغَفْلة منَ النَّاسِ عَلى سُوءِ مَذهبهم، فيَحذروهم عَلى أنفسهم وَعَلى أولادهم وأهليهم، ويَجتهدوا فِي الرَّدِّ عليهم، مُحتسبين مُنَافحين عن دين الله تعالى، طالبين به ما عند الله.
وقد كان مَن مضى من السَّلف يكرهون الخوض في هذا وما أشبهه، وقد كانوا رُزقوا العافية منهم، وابتلينا بهم عند دروس الإسلام، وذهاب العلماء، فلم نجد بُدَّاً من أن نرد ما أتوا به من الباطل بالحقِّ، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخوف ما أشبه هذا على أمته، ويحذرهم إياهم، ثم الصحابة بعده والتابعون..."، وينظر فيه أيضاً (ص 154).

ب/ قال الإمام الآجريُّ في كتابه (أخلاق العلماء)(ص 56- ط الافتاء): " اعلموا رحمكم الله، ووفقنا وإيَّاكم للرَّشاد أنَّ مِنْ صِفَةِ العَالِم العَاقلِ الَّذي فَقَّهه الله في الدِّين ونَفعه بالعلمِ؛ أن لاَ يُجَادل و لا يُماري ولا يُغالب بالعلمِ إلاَّ مَنْ يَستحقّ أنْ يغلبه بالعلمِ الشَّافي، وذلك يحتاج فِي وقتٍ مِنَ الأوقَات إلى مُنَاظرةِ أحد منَ أهل الزَّيغ ليدفع بحقه باطل منْ خالف الحقَّ وخرج عن جماعة المسلمين، فتكون غلبته لأهل الزيغ تعود بركة على المسلمين على جهة الاضطرار إلى المناظرة لا على الاختيار..".

ج/ قال الإمام البربهاري في (شرح السنة)(9/62):" اعلمْ أنَّ الْخُروجَ مِنَ الطَّريق علَى وَجهين:
أمَّا أحدهما....وآخر: عَاندَ الْحقَّ وخالفَ مَنْ كَانَ قَبله من المتَّقين؛ فَهو ضَالٌ مُضِلٌّ، شَيطانٌ مريدٌ في هذه الأمة، حقيقٌ على منْ يعرفه أنْ يُحذّر النَّاس منه، ويبين للناس قصَّته، لئلا يقعَ أحدٌ في بدعته؛ فيهلك".

د/ قال الإمامُ ابن بطة العكبري في (الإبانة الكبرى)(2/543) :"... وثالثٌ مشئوم قد زاغَ قلبه ، وزلَّت عنْ سَبيل الرَّشاد قَدمه ، فَعشيت بصيرته ، واسْتَحكمت للبدعةِ نُصرته ، يجهده أنْ يُشكِّك فِي اليقينِ، ويفسد عليك صحيح الدين؛ فجميع الذين رويناه ، وكل ما حكيناه في هذا الباب لأجله وبسببه ، فإنَّك لن تأتي في باب حصر منه و وجيع مكيدته أبلغ من الإمساك عن جوابه، والإعراض عن خطأ به، لأن غرضه من مناظرتك أن يفتنك فتتبعه، فيملك وييأس منك فيشفي غيظه أن يسمعك في دينك ما تكرهه ، فأخسئه بالإمساك عنه، وأذله بالقطيعة له أليس قد أخبرتك بقول الحسن رحمه الله حين قال له القائل : يا أبا سعيد تعال حتى أخاصمك في الدين ، فقال له الحسن : أما أنا فقد أبصرت ديني ، فإن كنت قد أضللت دينك ، فالتمسه . وأخبرتك بقول مالك حين جاءه بعض أهل الأهواء ، فقال له : أما أنا فعلى بينة من ربي ، وأما أنت فشاك ، فاذهب إلى شاك مثلك فخاصمه . فهل يأتي في جواب المخالف من جميع الحجج حجة هي أسخن لعينه ، ولا أغيظ لقلبه من مثل هذه الحجة ؟
والجواب : أما سمعت قول مصعب بن سعد : لا تجالس مفتوناً ، فإنه لن يُخطئك إحدى اثنتين : إما أن يفتنك فتتبعه ، وإما أن يؤذيك قبل أن تفارقه. وأيوب السختياني حين قال له الرجل : أكلمك بكلمة ، فولَّى عنه ، وأشار بإصبعه : ولا نصف كلمة ، وعبد الرزاق حين قال لابن أبي يحيى : القلب ضعيف ، وليس الدين لمن غلب".
هـ/ قال الإمامُ ابنُ عبدالبر في (جامع بيان العلم وفضله)(2/938) بعد إيراده كلام بعض الأئمة في النَّهي عن مناظرة أهل البدع، قالَ:" إلاَّ أنْ يَضطر أحدٌ إلى الكلام فلا يسعه السُّكوت إذا طمع بردِّ الباطلِ، وصرفِ صاحبه عن مذهبه، أو خشي ضلال عامَّة أو نحو هذا".

و/ قال الإمامُ شيخ الإسلام كما في (مجموع الفتاوى)(2/357-358) في معرض تعليله كثرة ردوده على الجهمية وغلاة المتصوفة:" ولولاَ أنَّ أصحابَ هَذا القول كثروا وظهروا وانْتشروا، وهم عنَد كثيرٍ من النَّاس سادات الأنام ومشايخ الإسلام، وأهل التَّوحيد والتحقيق، وأفضل أهل الطريق، حتى فضَّلوهم على الأنبياء والمرسلين وأكابر مشايخ الدين لم يكن بنا حاجة إلى بيان فساد هذه الأقوال وإيضاح هذا الضلال..".

ز/ قال الإمام ابن القيم في (الصَّواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة)(4/1276):" قال تعالى (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ )- (النحل: من الآية125)- فذكر سبحانه مراتب الدعوة وجعلها ثلاثة أقسام بحسب حال المدعو، فإنه إمَّا أن يكون:
طالباً للحق راغباً فيه محباً له، مؤثراً له على غيره إذا عرفه؛ فهذا يُدعى بالحكمة، ولا يحتاجُ إلى موعظة ولا جدال.
وإما أنْ يكونَ معرضاً مشتغلاً بضدِّ الحقِّ، ولكن لو عرفهُ عرَفه وآثرهُ واتَّبعه؛ فهذا يحتاج مع الحكمة إلى الموعظة بالترغيب والترهيب.
وإما أن يكون معانداً معارضاً؛ فهذا يُجادلُ بالتي هي أحسنُ، فإن رجعَ إلى الحقِّ و إلا انتقل معه من الجدال إلى الجلاد، إن أمكن فلمناظرة المبطل فائدتان:
أحدهما: أنْ يرد عن باطله ويرجع إلى الحق.
الثانية: أن ينكف شره وعداوته، ويتبين للنَّاس أن الذي معه باطلٌ.
وهذه الوجوه كلُّها لا يمكن أن تنال بأحسن من حجج القرآن ومناظرته للطوائف، فإنه كفيلٌ بذلك على أتم الوجوه لمن تأمله وتدبره، ورزق فهماً فيه..".

ح/ قال الحافظ ابنُ عبدالهادي في كتابه (الصارم المنكي في الرَّدِّ على السبكي)(ص 13-16) في قدمة الكتاب:" أما بعد: فإني وقفتُ على الكتاب الذي ألَّفه بعض قضاة الشافعية في الرَّدِّ على شيخ الإسلام تقي الدين أبوالعباس أحمد بن تيمية في مسألة شد الرحال وإعمال المطي إلى القبور...فوجدت الكتاب مشتملاً على تصحيح الأحاديث الضعيفة والموضوعة،وتقوية الآثار الواهية و المكذوبة، وعلى تضعيف الأحاديث الصحيحة الثابتة والآثار القوية المقبولة،وتحريفها عن مواضعها، وصرفها عن ظاهرها بالتأويلات المستنكرة المردودة، ورأيت مؤلف هذا الكتاب المذكور رجلاً ممارياً معجباً برأيه متبعاً لهواه، ذاهباً في كثير مما يعتقده إلى الأقوال الشاذة والآراء الساقطة،صائراً في أشياء مما يعتمده إلى الشبه المخيلة والحجج الداحضة، وربما خرق الإجماع في مواضع لم يسبق إليها ولم يوافقه أحد من الأئمة عليها.
وهو في الجملة لونٌ عجيبٌ وبناء غريب....فلما وقفتُ على هذا الكتاب المذكور أحببتُ أن أنبه على بعض ما وقع فيه من الأمور المنكرة والأشياء المردودة، وخلط الحقِّ بالباطل لئلا يغترَّ بذلك بعض من يقف عليه ممن لا خبرة له بحقائق الدين، مع أن كثيراً مما وقع فيه من الوهم والخطأ يعرفه خلق من المبتدئين في العلم بأدنى تأمل ولله الحمد، ولو نوقش مؤلف هذا الكتاب على جميع ما اشتمل عليه من الظلم والعدوان والخطأ والخبط والتخليط والغلو والتَّشنيع والتَّلبيس لطال الخطاب،و لبلغ الجواب مجلدات ولكن التَّنبيه على القليل مرشد إلى معرفة الكثير لمن له أدنى فهم، والله المستعان".

الفائدة السَّادسة: تَثبيتُ الْمُؤْمنينَ عَلَى مَا هُمْ عَليهِ مِنَ الْحَقِّ وَالْهُدَى.
و تَتحقَّقُ هذه في إظهار صِحَّة وقوَّة الحقِّ وصدق أدلته، وكشفِ زيغ أهل الباطل وكسر شبههم؛ لأنَّهم قد يُزخرفون باطلهم ويروِّجونه على خلافِ ما هو عليه فتنحرف أفهام منْ لا بصيرة له بحقيقة الأمر، ويقع في شِرَاكهم، نعوذ بالله من الخذلان، قال الله تعالى (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) (التوبة:33)، وقال تعالى (وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً) (الاسراء:74) قال الحافظُ ابن كثير في (تفسيره)(3/56):" يخبر تعالى عن تأييده رسوله، صلوات الله عليه وسلامه، وتثبيته وعصمته وسلامته من شر الأشرار وكيد الفجار، وأنه تعالى هو المتولي أمره ونصره، وأنه لا يكله إلى أحد من خلقه، بل هو وليه وحافظه وناصره ومؤيده ومظفره، ومظهر دينه على من عاداه وخالفه وناوأه، في مشارق الأرض ومغاربها، صلى الله عليه وسلم تسليما كثيرًا إلى يوم الدين".
وقال العلامة عبدالرحمن بن ناصر السعدي في (تفسيره)(ص 76):"... وفي هذه الآيات، دليلٌ على شدة افتقار العبد إلى تثبيت الله إياه، وأنه ينبغي له أن لا يزال متملقًا لربه، أن يثبته على الإيمان، ساعياً في كل سبب موصل إلى ذلك لأن النَّبي صلى الله عليه وسلَّم وهو أكمل الخلق، قال الله له ( وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلا) فكيف بغيره؟.
وفيها تذكير الله لرسوله منته عليه، وعصمته من الشر، فدل ذلك على أن الله يحب من عباده أنْ يتفطنوا لإنعامه عليهم- عند وجود أسباب الشر- بالعصمة منه، والثبات على الإيمان".

أ/ قالَ الإمامُ عثمان بن سعيد الدارمي في (الرَّد على الجهمية)(ص18/ رقم 15):"..فحينَ رأينا ذلكَ منهم، وفطنَّا لمذهبهم، وما يَقصدونَ إليه من الكُفر وإبطالِ الكتُب والرُّسل، ونفي الكَلام والعِلْم والأمر عن الله تعالى، رأينا أنْ نُبيِّن من مذاهبهم رسوماً من الكتاب والسُّنَّة وَ كلام العُلماءِ، ما يَسْتدل به أهل الغفلةِ منَ النَّاسِ على سوءِ مذْهَبهم، فيحذروهم على أنفسهم وعلى أولادهم وأهليهم، ويجتهدونَ في الرَّدِّ عليهم، محتسبين منافحين عن دين الله تعالى، طالبين به ما عند الله".
ب/ قال العلامة ابنُ قدامة في (تحريم النظر في كتب الكلام) (ص 35):" وما عادتي ذكر معائب أصحابنا، وإنني لأحبُّ ستر عوراتهم، ولكن وجب بيان حال هذه الرجل حين اغترَّ بمقالته قومٌ واقتدى ببدعته طائفة من أصحابنا، وشككهم في اعتقادهم حسن ظنِّهم فيه، واعتقادهم أنه من جملة دعاة السُّنَّة، فوجب حينئذٍ كشف حاله، وإزالة حسن ظنِّهم فيه، ليزول عنهم اغترارهم بقوله، وينحسم الداء بحسم سببه، فإن الشيء يزول من حيث ثبت".

ج/ قال الإمام ابنُ القيم في كتابه (اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة والجهمية) (ص 47-48) بعد كلامٍ مطولٍ له عن ظلمات أهل الجهل والبدعة، وأنوار أهل السنة، قال:" سُبحان الله! ماذا حُرم المعرضونَ عن نُصوص الوحي واقتباس الهدى من مِشْكاتها من الكنوز والذخائر، وماذَا فاتهم من حياة القلوب واستنارة البصائر؟ قنعوا بأقوال استنبطها معاول الآراء فكراً وتقطعوا أمرهم بينهم لأجلها زبراً، وأوحى بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً، فاتخذوا لأجل ذلك القرآن مهجوراً، درست معالم القرآن في قلوبهم، فليسوا يعرفونها، ودثرت معاهده عندهم، فليسوا يعمرونها، ووقعت أعلامه من أيديهم، فليسوا يرفعونها، وأفَلَتْ كواكبه من آفاقهم فليسوا يبصرونها، وكسفت شمسه عند اجتماع ظلم آرائهم وعقدها، فليسوا يثبتونها.
خَلعوا نصوص الوحي عن سُلطان الحقيقة، وعزلوها عن ولاية اليقين، شنوا عليها غارات التحريف بالتأويلات الباطلة، فلا يزال يخرج عليها من جيوشهم المخذولة كمين بعد كمين. نزلت عليهم نزول الضيف على أقوام لئام، فعاملوها بغير ما يليق بها من الإجلال والإكرام، وتلقوها من بعيد، ولكن بالدفع في صدورها والإعجاز. وقالوا ما لك عندنا من عبور، وإن كان لا بد فعلى سبيل المجاز، أنزلوا النصوصَ منزلة الخليفة العاجز في هذه الأزمان، له السكة والخطبة وما له حكم نافذ ولا سلطان، حرموا والله الوصول بخروجهم عن منهج الوحي، وتضييع الأصول، وتمسكوا بأعجاز لا صدور لها، فخانتهم أحرص ما كانوا عليها، وتقطعت بهم أسبابهم أحوج ما كانوا إليها، حتى إذا بُعْثِرَ ما في القبور، وَحُصِّلَ ما في الصدور، وتميَّزَ لكل قوم حاصلهم الذي حصلوه، وانكشفت لهم حقيقة ما اعتقدوه، وقدموا على ما قدموه، وبدا لهم من اللّه ما لم يكونوا يحتسبون، وسقط في أيديهم عند الحصاد لما عاينوا غلة ما بذروه.
فيا شدة الحسرة عندما يعاين المبطل سعيه وكدّه هباء منثوراً، ويا عظم المصيبة عندما تبين بوارق آماله وأمانيه خلباً وغروراً.
فما ظن من انطوت سريرته على البدعة والهوى والتعصب للآراء بربه سبحانه وتعالى يوم تبلى السرائر؟!.
وما عذر من نبذ كتاب اللّه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وراء ظهره في يوم لا ينفع فيه الظالمين المعاذر؟!.
أفيظن المعرض عن كتاب اللّه وسنّة رسوله صلى الله عليه وسلم أن ينجو غداً بآراء الرِّجال، ويخلص من مطالبة اللّه تعالى له بكثرة البحوث والجدال. أو ضروب الأقيسة وتنوع الأشكال، أو بالشطحات والمشارات وأنواع الخيال؟!!.
هيهات! واللّه لقد ظنّ أكذب الظنّ ومنّى نفسه أبين المحال، وإنما ضمنت النجاة لمن حكم هدى اللّه تعالى على غيره، وتزوّد التقوى، وأتم بالدليل، وسلك الصراط المستقيم، واستمسك من التوحيد واتباع الرسول صلى الله عليه وسلم بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها. واللّه سميع عليم".

الفائدة السَّابعة: الْحِرْصُ عَلَى هِدَايَةِ الْمُسْتَرشِدِ إنْ كَانَ طَالِباً لِلْحَقِّ بَاحِثَاً عَنْهُ.
ولعلَّ فيما سبقَ من نُقولاتٍ يظهرُ للمرء المنصف أنَّ أهل العلم منْ مَقاصدهم الشريفة في الرَّدِّ على المخالفة والمخالف هداية الخلق، وبخاصة ممن كان باحثاً عنه لكنَّ شُغب عليه في الوصول إليه.
أ/ قالَ الإمام ابن بطة العكبري في (الإبانة الكبرى)(2/540-543):" فَإنْ قَال قائل : قَد حذرتنا الخصومة و المراء و الجدال والمناظرة ، وقَد علمنا أنَّ هذا هو الحق ، وأنَّ هذه سبيل العُلماء ، وطريق الصحابة والعُقلاء من المؤمنين والعلماء المستبصرين ، فإنْ جَاءني رجلٌ يَسألني عن شيء من هذه الأهواء التي قد ظَهرت، والمذاهب القبيحة التي قد انتشرت، ويخاطبني منها بأشياء يلتمسُ منِّي الْجَواب عليها، وأنا ممن قد وهبَ الله الكريم لي علماً بها ، وبصراً نافذاً في كشفها ، أفأتركه يتكلم بما يريد ولا أجيبه، وأخليه وهواه وبدعته ، ولا أرد عليه قبيح مقالته؟.
فإني أقول له : اعلم يا أخي - رحمك الله- أنَّ الذي تُبلى به من أهل هذا الشَّأن لن يخلو أنْ يكونَ واحداً مِنْ ثَلاثة:
إمَّا رجلاً قد عَرفت حُسن طريقته وجميل مذهبه ومحبته للسَّلامة وقصده طريق الاستقامة ، وإنَّما قد طرق سَمعه من كلام هؤلاء الذين قد سكنت الشياطين قلوبهم، فهي تنطق بأنواع الكفر على ألسنتهم ، وليس يَعْرِفُ وجْهَ المخرج مِمَّا قد بُليَ به، فسؤاله سؤال مسترشد يلتمس المخرج مما بلي به ، والشفا مما أوذي . . . . . إلى علمك حاجته إليك حاجة الصّادي إلى الماء الزلال، وأنت قد استشعرت طاعته وأمنت مخالفته؛ فهذا الذي قد افترض عليك توفيقه وإرشاده مِنْ حَبائل كيد الشياطين، وليكن ما ترشده به ، وتوقفه عليه من الكتاب والسنة والآثار الصحيحة من علماء الأمة من الصحابة والتابعين ، وكل ذلك بالحكمة والموعظة الحسنة، وإيَّاك والتكلف لما لا تعرفه، وتمحل الرأي، والغوص على دقيق الكلام ، فإنَّ ذلك من فعلك بدعة، وإن كنت تريد به السنة، فإن إرادتك للحق من غير طريق الحق باطل ، وكلامك على السنة من غير السنة بدعة، ولا تلتمس لصاحبك الشفاء بسقم نفسك، ولا تطلب صلاحه بفسادك ، فإنه لا ينصح الناس من غش نفسه، ومن لا خير فيه لنفسه لا خير فيه لغيره ، فمن أراد الله وفقه وسدده ، ومن اتقى الله أعانه ونصره ....
إلى أن قال- فإذا كان السائل لك هذه أوصافه ، وجوابك له على النحو الذي قد شرحته ، فشأنك به ، ولا تأل فيه جهدا ، فهذه سبيل العلماء الماضين الذين جعلهم الله أعلاما في هذا الدين ، فهذا أحد الثلاثة..".

ب/ قال شيخ الإسلام ابن تيمية في (الرد على البكري)(2/490):" وأئمة أهل السنة والجماعة وأهل العلم والإيمان فيهم: العلم والعدل والرحمة، فيعلمون الحقَّ الذي يكونون به موافقين للسنة، سالمين من البدعة، ويعدلون على من خرج منها ولو ظلمهم، كما قال تعالى (كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى)- (المائدة: من الآية8)-، ويرحمونَ الخلقَ؛ فيريدون لهم الخير والهدى والعلم، لا يقصدون الشرَّ لهم ابتداءً، بل إذا عاقبوهم وبيَّنوا خطأهم وجهلهم وظلمهم،كان قصدهم بذلك بيان الحق، ورحمة الخلق، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن يكون الدين كلُّه لله، وأن تكون كلمة الله هي العليا".

ج/ قال الإمام ابن القيم في كتابه (مفتاح دار السعادة)(1/153):" جعل الله سبحانه وتعالى مراتب الدعوة بحسب مراتب الخلق، فالمستجيبُ القابل الذكي الذي لا يُعاندُ الحق ولا يأباهُ يُدعى بطريق الحكمة.
والقابل الذي عنده نوع غفلة وتأخرٍ يُدعى بالموعظة الحسنة، وهي الأمرُ والنهي المقرون بالترغيب والترهيب.
والمعاندُ الجاحدُ يُجادلُ بالتي هي أحسنُ".
و زاد رحمه الله في (الصَّواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة)(4/1276) في بيان وصف حال الأخير من الثلاثة بقوله:" ... وإما أن يكون معانداً معارضاً؛ فهذا يُجادلُ بالتي هي أحسنُ، فإن رجعَ إلى الحقِّ و إلا انتقل معه من الجدال إلى الجلاد، إن أمكن فلمناظرة المبطل فائدتان:
أحدهما: أنْ يرد عن باطله ويرجع إلى الحق.
الثانية: أن ينكف شره وعداوته، ويتبين للنَّاس أن الذي معه باطلٌ.
وهذه الوجوه كلُّها لا يمكن أن تنال بأحسن من حجج القرآن ومناظرته للطوائف، فإنه كفيلٌ بذلك على أتم الوجوه لمن تأمله وتدبره، ورزق فهماً فيه..".

وختاماً أقولُ:
أسألُ الله العظيم ربَّ العرش الكريم أنْ يَنفعَ بِهذه الكتَابة كاتِبَها وقَارئها ومَنْ كان سَبباً فيها، وأنْ يُثبِّتنا جميعاً عَلى الإسلام والسُّنَّة حتى نلقاهُ، (إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ)،
وَصلَّى الله على نبيِّنا محمَّدٍ وآله وصحبه وسلَّم.
وكتب
عبدالله بن عبدالرَّحيم البخاري- كان الله له-
يوم الخميس الموافق للثامن من شهر صفر عام ثلاثين بعد الأربعمائة والألف من هجرة النَّبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم.